מאמרים
היסטוריה, זיכרונות
תרבות
Français English عربى  Etc.

انتفاضة واحدة تكفي

بقلم: مرزوق الحلبي*

 

دالية الكرمل، إسرائيل - بدأتُ في الآونة الأخيرة أسمع مرة أخرى ذاك التهديد الفلسطيني الموجّه لإسرائيل بأن عدم التقدم في المسار التفاوضي مع إسرائيل سيُفضي دون شكّ إلى انتفاضة ثالثة. وأسمع بعض الفلسطينيين يتحدثون حتى عن انتفاضة ثالثة بنشوة وكأنهم ذاهبون إلى زفّة عريس أو ليلة أُنس في فيينا!

صحيح أن السياسات الإسرائيلية ابتعدت عن مسار التسوية والتفاوض، وجَنحَت نحو عنف متجدد ضد الفلسطينيين، إلا أن هذه الحقيقة وحدها لا تبرّر اعتماد خيار الانتفاضة الثالثة.

لقد أصبح واضحاً في الحقيقة أن الانتفاضة الثانية ألحقت ضرراً بالتطلعات الوطنية الفلسطينية أكثر مما أفادتها. فبينما كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر ثمانينيات القرن العشرين كفاحاً شعبياً شرعياً أفضى إلى معاهدات أوسلو، فإن الانتفاضة الثانية كانت عنفية دونما ضرورة، وأفضت إلى حملتين عسكريتين إسرائيليتين على الضفة الغربية وغزة وإلى إلحاق ضرر بالمسألة الفلسطينية سياسياً ومادياً ومعنوياً. ولهذا السبب لا يمكننا إلقاء اللائمة على إسرائيل وحدها، فحقيقة اختيار الفصائل الفلسطينية لمسار العنف يجعلهم هم أيضاً ملامون.

إضافة إلى ذلك، أعطت حقيقة أن الفلسطينيين وقتها لم يفصلوا بين كفاحهم والإرهاب الأصولي الدولي، ولم يحاولوا قطع الرابط الذي أسسته القاعدة على سبيل المثال بين نشاطها والقضية الفلسطينية، أعطت إسرائيل مبرراً للمماثلة بين عنف حماس والإرهاب الجهادي الدولي.

الواقع أن الأسباب الأهم لتأجج الانتفاضة الثانية نبعت بدافع عوامل الداخل الفلسطيني، مثل محاولة حركة حماس التنافس مع فتح والفصائل الأخرى حول فرض "الاستحواذ" على المسألة الفلسطينية بمساعدة تركيز متزايد على عامل التضحية والاستشهاد.

أفضت الانتفاضة الثانية، كما اتضح، إلى فك الارتباط السياسي بين دولة حماس في غزة وبين السلطة الوطنية في رام الله، بل تحولت إلى عنف واقتتال داخليين أنتجا مشاهد لا تقلّ فظاعة عما أنتجته الإجراءات الاحتلالية، الأمر الذي جعل الراحل محمود درويش يتساءل أي شهيد سيدخل الجنة أولا، المقتول بنار الأخوة أو ذاك المقتول بنار العدوّ!

لقد ابتلي النزاع الفلسطيني بميل لبذل التضحيات دون حساب، وكأن الذين قادوا النضال اعتبروا الناس، وخصوصا الشباب الفلسطيني، وقودا للثورة يحررونه شيكات مفتوحة على مدّ النظر، بمعنى أن حسابات الضحايا لم تتضمن السعي إلى تقليل عددها. فوقع العشرات من الشباب الفلسطينيين ضحية فكرة التضحية والشهادة بأعداد تزيد على ما تحتاجه المقاومة. بالنتيجة صارت الشهادة أهم من التحرير والتضحية أهم من إنهاء الاحتلال.

انزلقت المسألة الفلسطينية العادلة من مطلب إنهاء الاحتلال وإقامة السيادة الوطنية إلى منحى غير أخلاقي عندما توقفت عن تكريس مصادرها للحياة والحرية وأخذت تكرّس الإنسان من أجل مشاريع التناحر الداخلي.

لقد أصبح من الواضح الآن أن لدينا خيارات أخرى غير عنفية، ستثبت في نهاية المطاف أنها أفضل سياسيّاً وأخلاقيّاً. فقد شهدْنا في السنوات الأخيرة انتشاراً للاحتجاجات اللاعنفية، حيث انخرطت قرى مثل نعلين وبلعين اسبوعيّاً باحتجاجات مناهضة للجدار الأمني لعدة سنوات. يمكن لقرار فلسطيني رسمي في هذه المرحلة باعتماد خيار اللاعنف في إطار مواصلة المواجهة مع الجانب الإسرائيلي أن يعني تصحيحاً تاريخياً للمشروع الفلسطيني وفتحه على آفاق جديدة نحو الداخل ونحو الخارج على السواء. كما أنه سيشكّل في الوقت ذاته عزوفاً عن نهج بذل التضحيات البشرية والمادية والسياسية دون حساب أو كوابح. وسيعني كذلك ردّ اعتبار للإنسان الفلسطيني وحقّه في الحياة وليس في الشهادة.

لا يستطيع أحد منا أن يشكك في مشاعر غاندي الوطنية ولا في حزم مارتن لوثر كينغ الإبن. وهكذا يستطيع الفلسطينيون أن يكونوا في منتهى الحزم دون أن يتخطوا ذلك إلى العمل المسلّح أو العنف غير المحدود. لا يقلل اللاعنف من مصداقية المطالب الفلسطينية ولا من عدل قضية هذا الشعب. ومن هنا فإن انتفاضة واحدة تكفي وتزيد.

---------------

* مرزوق الحلبي, كاتب ومراسل ومستشار سياسي، يكتب مقالاً يومياً في جريدة الحياة. كُتب هذا المقال لخدمة الأرضية المشتركة الإخباريّة .

مصدر المقال: خدمة الأرضية المشتركة الإخبارية، 1 شباط/فبراير 2010 www.commongroundnews.org

تم الحصول على حقوق نشر هذا المقال.

 

2/9/2010