فلنناضل أن يظل
حسن ومرقص فى المشهد دائماً.
بقلم: سامي لبيب*
يتسلل للمرء الإحساس باليأس في جدوى ما يكتبه !!..فما الفائدة من الكتابة والتنظير طالما الأمور تظل كما هي دون أي بارقة أمل في التغيير .. بل على العكس يستمر مسلسل التعصب والفتنة الطائفية متواصلا ً ليطل بفصوله المتلاحقة دون أي تمهل.
كتبت كما كتب الكثيرون عن مذبحة نجع حمادي بصعيد مصر والتي راح ضحيتها ستة من أقباط مصر بدون أي معنى سوى التعصب والوحشية .
تلتهب دائما ً أقلامنا وكتاباتنا لتخوض في كل مشكلة طائفية تطل على وادي مصر ...وتقام كرنفالات التنديد والتحذير ..ثم ما يلبث المثقفون يخمدون ويهدأون مع توارى الأحداث .. لتطل أحداث أخرى متجددة رافضة لهذا المسلسل أن ينتهي ليندفع المثقفون مرة ثانية في التحليل والتنديد .!
وكما تدور الدوائر على المثقفين تدور أيضا ً على رجال السلطة ورجال الدين ليرددوا نغمتهم المشروخة المعتادة بأن وحدة مصر قوية بمسلميها وأقباطها .. ولن توجد أג قوى تستطيع أن تنال من النسيج الوطني لينتهي المشهد بالصورة الختامية من تقبيل اللحى وعاش الهلال مع الصليب ...ويظل الجرح مستمرا ً.
ما هذه العبثية ؟ ..ولماذا ندفن رؤوسنا في الرمال ؟ ..ولماذا يتجدد المسلسل دائماً ولا تبدو أي بادرة أمل نحو وقف هذا النزيف المستمر وهذه العروض البشعة .؟
السبب ببساطة لأننا لا نريد أن نعترف بعوراتنا وليس لدينا أي إدراك لثقافة المراجعة والإعتذار .
حدث غريب يطل علينا من أقاصي غرب مصر هذه المرة ..من مرسى مطروح المدينة الهادئة التي غنت لها الرائعة ليلى مراد ..ولكن كان هذا من زمان ولى .
إشتباكات دامية بين المسلمين والمسيحيين في هذه المدينة الهادئة والسبب يدعو للضحك والتباكي في نفس الوقت .سور في حارة جانبية يبنيه الأقباط فيثير حمية المسلمين ظناً منهم أنه لتوسيع الكنيسة .
هكذا أصبحت علاقة المسلمين والأقباط ..سور أو دورة مياه أو باب أو شباك يجعل الأمور تصل إلى العراك والتخريب والتدمير ..ولا مانع أبدا ً من سقوط ضحايا من الجانبين فداء السور المقدس أو دورة المياه المبجلة .
تعالوا نحلل ما الذي يدفع المسلمون البسطاء العاديون إلى ممارسة فعل عنيف في حق جيرانهم الأقباط .. لا يعنينا بالفعل أن نغرق في تفاصيل الحدث..لأنه بكل المقاييس لا يوجد ما يبرر كل هذا العنف الجماعي ..فلا سور ولا باب أو شباك أو تنصر مسلم أو إسلام مسيحي يدعو للحرق والتخريب الهمجي .
وما هي هذه التوافه إلا وتخبئ تحتها للأسف بركان من الغضب والإحتقان والتعصب .
هناك بالفعل مصائب وبلاوي عظمى تختبىء وراء عمل كهذا نراه همجيا ً ..وما الحدث إلا إنذار بحجم المصائب التي وصلت بحال الإنسان المصري .
المصيبة الأولى
أن المواطن المصري العادي لم يتسلل إلى عقله وثقافته مفهوم الحرية وحرية العقيدة وحقوق الأخر ف ممارسة معتقداته وأفكاره ...فهو ينزعج من بناء كنيسة أو ترميمها ..!! بالفعل شئ يدعو للإحباط واليأس .
نعم هي مصيبة لأننا لسنا أزاء سلطة مستبدة تضيق الخناق على الجماهير بغية تمرير سياسات هي مناهضة لحقوق هذه الجماهير ..ولكن المصيبة أن البسطاء لم يتسلل إلى مفهومهم قيم وثقافة الحرية وحقوق الإنسان .!! فهو رافض لحق الأخر في ممارسة عبادته وأفكاره وحريته ..هو في الأساس غير محترم لحرية الأخر في الفكر والإعتقاد والممارسة .
هل نتوقع من الفاقد لهذه الأساسيات أن يعي مفهوم الحرية ويناضل من أجلها !!
المصيبة الثانية ..
أن جماهير الشعب المصري غير معنية بمنظومة المجتمع المدني ..لم يتسلل إلى ثقافتها حتمية وصيرورة المجتمع المدني ..فهاهو حدث ليس لأي من شارك فيه أي أهلية لممارسة هذا العنف ..فلو تصورنا جدلا ً أن الأقباط مخطئين بفعلتهم هذه ..فليس معنى هذا أن يمارس العامة فعل الحكم والعقاب ..فأين مؤسسات المجتمع المدنية من الفعل من مجالس محلية ودواوين محافظة والقيادات الحزبية السياسية وحكم القضاء على رأس هذه المجموعة .
أننا لو تركنا الأمور تسير هكذا فسنغرق في طوفان من الفوضى والهمجية والتوحش .
المصيبة الثالثة
أن هناك دائما ً من يمسك عود الثقاب من خلال خطبة عصامية في مسجد أو زاوية ليشعل الأحداث والمشاعر ويحفز على الفعل , متكئا ً على مجموعة من التراث القديم المفعم بالعنصرية ورفض الأخر فتلتهب مشاعر الجماهير المحبطة بالأساس من مجمل حياتها لتمارس التنفيس عن طاقة غضبها في جارهم المسيحي .
والمهذلة تتجلى عندما يتم القبض على مثيري الشغب والعنف ويتم إهمال من أشعل عود الثقاب .. ليعاود الإشعال مرة تلو الأخرى .!!
المصيبة الرابعة ..
أن أمن مصر يتم التلاعب به بل يدخل في عملية رهان ومقامرة رخيصة ..
فمن بداية عصر السادات تم التلاعب بأمن مصر لقاء مكسب سياسي رخيص أراده السادات له ولطبقته الإنتهازية ..
كان كل همه أن يحجم قوى اليسار والمشروع الوطني الناصري ..فسمح لكل القوى الدينية والظلامية أن يكون لها حضور حتى تحد من القوى اليسارية والوطنية .
وبلا شك أن أصحاب المشروع الديني لا يمتلكوا إلا التراث المفعم بالعنصرية والتمايز ليستحضروه على واقع تجاوزه لتظهر الفتن الطائفية كنتاج طبيعي لمشروعهم السلفي .. كما لا يخبئ رغبتهم في خلق مشروع حربي وتعبوي وليكن ضد الأخر الدينג لإستقطاب الجماهير واللعب على عواطفهم وأعصابهم المرهقة وإستمالتهم لصفوفهم كمدافعين عن الإسلام ليخلقوا قواعد عريضة لهم .
السلطة أيام السادات كانت فجة في اللعب والمقامرة ..والسلطة الحالية غير مهتمة ..أو قل كأنها تريد أن تمرر أيامها فهي لا تمتلك مشروع قومي يجمع الجماهير كما كان في العهد الناصري ..فالعهد الناصري مهما كانت له من سلبيات إلا أنه كان ينحاز إلى جماهير عريضة فإلتفتت الجماهير حوله ولم تستثار حول قصة سور يبنيه الأقباط لأنها بالفعل لم تكن مرهوبة من نظام لن يسمح بالعبث في مثل هكذا قضايا ..بقدر كونها لم تحس أنها مغتربة أو مضطهدة لتفرغ طاقة غضبها في الأقباط .
القضية ليست سور أو باب ..القضية هي قضية وطن ينتهك ويتلاعب بسلامه نتيجة إحباطات كثيرة ..وبوم ناعق بالخراب يختبأ في أحد الزاويا .
لن ينتهي هذا المسلسل البشع إلا بترسيخ قيم المجتمع المدني في نفوس الجماهير ..وأن تتغلغل قيم الحرية وحقوق الإنسان في شرايين أفراد المجتمع المصري ..أن تصل إليهم المفاهيم الأولية عن حق الأخر في حرية فكره ومعتقده وممارسة معتقداته ..
أن يتم التعامل بقوة وقسوة مع أصحاب أعواد الثقاب ويتعامل المثقفون مع عيدان الثقاب نفسها لنزع المواد الإشعالية منها بإعتبارها خطر حادق بالمجتمع حال إسقاطها وتفعيلها .
أن يتم تفعيل قانون المواطنة بكل جدية وأن تكون القوانين تسرى على الجميع بكل حزم وقسوة بدون أي شكل تمايزي أو إرضاء وشراء الخواطر .
أن يكون هناك مشروع قومي حقيقي منحاز للجماهير العريضة فيذوب الجميع داخلهم ويترفعوا عن السور والشباك لنبدل مشاعر الغضب والإغتراب والتهمييش داخلهم ليحل بديلا ً عنها مشروع حلم وأمل ووطن .
في موضوع سابق ليّ عن مذبحة نجع حمادي علق مواطن مصري قبطي مذبوح حتى النخاع بعبارة كان لها معنى ودلالة عميقة تفيض تشاؤما ً ومرارة ..قال هذا الزميل :
ى ثلاثينيات القرن الماضي كان هناك فيلم مصري شهير بعنوان " حسن ومرقص وكوهين " لتمر السنون لتنتج السينما المصرية فيلما ً للرائعان عادل إمام و عمر الشريف بعنوان " حسن ومرقص " لقد سقط كوهين من الحدث !..فهل سيأتي اليوم الذي نصنع فيلما ً بعنوان " حسن فقط " .!!!!
عبارة بقدر ما هي تشاؤمية إلا أن الحرائق العظمى تأتى من مستصغر الشرر ..
لو حرصنا أن نبحث في أسرار الشرر سنتجاوزه ..وسنخرج من أزمتنا ..وإذا لم نفعل فسنبقى دائما نكتب بأقلامنا عند كل حدث منددين مستنكرين مرشدين ..ولكن كل الخوف أن يجف مداد الحبر في أقلامنا لنجد اليوم الذي نكتب فيه بمداد من الدماء !...ونجد المستصغر من الشرر حولنا أصبح نارا ًيحرق وجهوهنا وأقلامنا .!!
فلنناضل أن يظل حسن ومرقص في المشهد دائماً .
------------
* سامي لبيب – fairouzatef@yahoo.com – المصدر: الحوار المتمدن – العدد: 2945 – 15.3.2010 www.ahewar.org
|