سميح القاسم: شكرًا... ولكن

وصلكم عبر وسائل الإعلام، نبأ الدعوة التي تلقيتها من سمو الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، لتقديم قراءة شعرية خاصة في العاصمة "الرياض" بمناسبة انعقاد المهرجان الوطني للتراث والثقافة. وأكد سمو الأمير في دعوته الكريمة ما اعرفه من أن أصدقاء قصيدتي في السعودية كثر جدا، فقبل أعوام زارتني في "الدوحة" مجموعة من الطلاب الجامعيين السعوديين الذين أصروا على مقابلة شخصية بعد أن قطعوا (حسب قولهم) مئات الكيلومترات لحضور أمسيّتي.. وبعدها بأعوام تأجلت أمسيّتي في "المنامة" قرابة ساعة حتى يتمكن السعوديون، العالقون في المواصلات على الجسر، من حضورها، بناءً على اتصالات هاتفية منهم مع منظمي الأمسيّة. وكما تعلمون فأنا شديد الاعتزاز بالعلاقة الخاصة بين قصيدتي وبين أحبتي وأهلي في الوطن العربي وفي الديار المقدسة على وجه الخصوص.
بطبيعة الحال فقد رحبت بالدعوة الأخوية الكريمة من سمو الأمير متعب، وأعربت عن رغبتي الصادقة في تلبيتها. وعادت وظهرت ثانية المشكلة القديمة - الجديدة نفسها "جواز السفر" اقترحوا عليّ استصدار وثيقة فلسطينية أو أردنية للالتفاف على هذه المشكلة، وكما تعرفونني، فقد رفضت هذه الفكرة، رغم أنني أردني المولد فلسطيني الانتماء ومن حقي استصدار هذه الوثيقة أو تلك، ولن يتعذر الأمر عليّ لو كنت راغبا فيه. وطبعا فليس أساس الرفض قائما على "التشبث" بجواز السفر الإسرائيلي، لكنه رفض قاطع لفهم خاطئ ومسيء لي ولمليون وربع المليون من العرب الفلسطينيين الذين بقوا على ارض وطنهم تحت الحكم الإسرائيلي، واختاروا.. أجل.. اختاروا البقاء مهما يكن حجم الضريبة النفسية والمعنوية والمادية التي يدفعونها مقابل هذا البقاء المشروط بالرسميات الإسرائيلية. سبق وقلتها على أكثر من فضائية عربية، وفي أكثر من وسيلة أعلام أنني لو خُيرت بين الهجرة من الوطن وبين البقاء فيه شريطة أن أُدمغ بنجمة داوود، لقدمت لهم وجهي ولأدرت لهم ظهري مصرًا: ادمغوا حيث تشاؤون.. ما أنا براحل عن هذه الأرض مهما يكن الثمن!
ليس سرًا أن الانتهازيين ومدمني الهرب والجبن، ومهرجي العمل الوطني والسياسي والثقافي والاجتماعي، يتقنون ابتداع الذرائع والحجج، لتبرير انهزاميتهم وانصرافهم إلى أكشاك الارتزاق وحظائر القنانة، في خدمة أصناف شتّى من الجهات السرية والعلنية والمشبوهة والمفضوحة، محترفين التدجيل بهلوسات التنظير "لانتهاء زمن أدب المقاومة وشعر المقاومة"، مؤثرين حطام الدنيا على شرف الثقافة وجوهر النضال... وليس سرًا أنني واجهت هذه الظاهرة الساقطة أخلاقيا وفنيا وأدبيا وفكريا وسياسيا، ووضعت دائما شرط احترام أبناء شعبي المقيمين في وطنهم تحت الحكم الإسرائيلي، وتفهم ظروف بقائهم وكفاحهم، وتقدير تشبثهم بترابهم الوطني والقومي منتصبي القامات مرفوعي الهامات، رغم كل أشكال الحصار والقمع والتمييز والعنصرية التي واجهوها ببسالة جلية وبعقلانية شجاعة وناصعة، إلى الأبد إن شاء الله وبعون الله.
يوم قامت إسرائيل كنا أطفالا، ونحن لا نتحمل مسؤولية قيام إسرائيل وبطاقة هويتها أو جواز سفرها. وإذا كان هناك من ينبغي أن يحاسب في هذا الموضوع، فهو جامعة الدول العربية بقضّها وقضيضها وبقديمها وجديدها وبوعدها ووعيدها. أيها الإخوة الكرام الأعزاء، على امتداد الوطن العربي الكبير: نحن الضحايا ولسنا الجلادين، نحن السائلون ولسنا المسؤولين، ومن حقنا أن نطلب منكم فهما أفضل وأعمق وأرقى لما نحن فيه ومن حقنا ألا تزجوا بنا في مقولة "التطبيع" فنحن نمثل شعبا ووطنا وقضية ولا نمثل حكومة أو دولة أو مؤسسة رسمية. ثم إن القتلة والجواسيس الذين يدنسون بلادكم لا يتجولون هناك " بجوازات سفر إسرائيلية"، منذ أيام ايلي كوهين حتى قتلة المبحوح! وأنا شخصيا زرت إيران وسوريا وعددا كبيرا من الدول العربية والإسلامية التي أقرت وأعلنت أن جواز سفري هو قصيدتي.. وواجهت وجابهت كثيرا من السذّج أو العملاء الذين لم يفقهوا المغزى القومي الحضاري التاريخي العميق لهذا التواصل الشريف النظيف بين الأمة وقصيدتها وبين القصيدة وأمتها، ولم يعمل على عرقلة هذا التواصل النبيل سوى المرتزقة والاقنان والعملاء والجواسيس، المختبئين هنا وهناك وراء أقنعة شتى!!
ولطالما قلت وردّدت وكرّرت إنني لا اسمح لكائن من كان بالمزاودة عليّ وعلى قصيدتي، ولطالما أعربت عن أسفي لانسياق بعض العناصر في الوطن العربي لتخرصات العملاء والجهلاء والحمقى والأدعياء، المدسوسين منهم والمفضوحين، الذين يفتئتون علينا بباطلهم ويتطاولون ويتشدقون بما ليس فيهم ولا منهم، بل بأوامر الريموت كونترول التي يوجهها أليهم أسيادهم من هنا ومن هناك. لكم كنت أتمنى، في ما تبقى من العمر، أن أقبّل ارض الحجاز الطاهرة وان أعانق، جسدا وقصيدة، أهلها الطيبين الكرام، والى أن يتحقق ذلك، إذا أتيح لي أن يتحقق ذلك، فسأكتفي بحج القصيدة وعمرتها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الإخوة الأعزاء الأحباء إلى يوم الحشر.. وشكرا جزيلا. شكرا لسمو الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود على دعوته الأخوية الكريمة الطيبة.. شكرًا... ولكن.
الرّامة، الجليل، السبت 13 آذار (مارس) 2010
|