جلعاد شليط والضمير الغائب
بقلم: سلمان مصالحة *
يجب التأكيد أوّلاً أنّ جلعاد شليط هو جنديّ إسرائيليّ وقع في أسر قوّات فلسطينيّة في غزّة خلال عمليّة عسكريّة على خلفيّة الصّراع الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ منذ عقود. هذه الحقيقة وهذه الخلفيّة تضعان كلاًّ من العمليّة وأسر الجنديّ في خانة المشروعات الطبيعيّة الأمميّة لمن هو واقع في حالة صراع ضدّ احتلال. ولقد كُتب الكثير وقيل الكثير باللغة العربيّة حول قضيّة هذا الأسير الإسرائيلي القابع في غزّة منذ عدّة أعوام.
لن أتحدّث هنا في هذه المقالة عن موبقات الاحتلال الإسرائيلي، بجيشه ومستوطنيه، المتراكمة فوق صدور الفلسطينيّين منذ عقود. فكلّ هذه الموبقات معروفة للقاصي والداني، كما أنّ وسائل الإعلام، العربية منها بصورة خاصّة، وكذلك غير العربيّة بما فيها العبريّة أيضًا، تعجّ بهذه الأخبار والتحقيقات.
ولن أتحدّث في هذه المقالة عن مدى الحكمة في هذه العمليّة التي كلّفت الجانب الفلسطينيّ آلاف القتلى والجرحى، إضافة إلى الدّمار الّذي حلّ بغزّة وأهلها بعد أن انهال عليهم "رصاصًا مصبوبًا" على مرأى ومسمع من العالم، العربيّ والأجنبيّ. وها هو الحصار لا يزال مطبقًا على غزّة منذ ذلك الأوان دون أن يفعل هذان العالمان، لا الأجنبيّ ولا العربيّ، شيئًا يُذكر لأجل فكّ هذا الحصار.
كما لن أتحدّث عن عمرو موسى، أمين عام كتاتيب المشيخات العربيّة، الذي لم نسمعه أبدًا يطالب جمهورية مصر العربية ورئيسها بفتح حدود مصر مع غزّة لإنهاء الحصار فورًا. لا نفهم كيف يطلب حضرته من إسرائيل، وهي العدوّ في منظوره العروبيّ، بفكّ الحصار عن غزّة، ولا يطلب من بلده العربي، "الشّقيقة مصر"، بعمل ذلك. فهل هذا هو منطقه العروبيّ؟ وهل ثمّة عربيّ على وجه الأرض يستطيع فهم هذا المنطق أصلاً؟ لكن، ما لنا ولهذا.

بعد مرور أعوام على هذه القضيّة وملابساتها، ثمّة حاجة ماسّة إلى قول شيء لم يُقل بعد في اللغة العربية. لم يُقل بعدُ في اللغة الفلسطينيّة، على وجه الخصوص، وفي الشارع الفلسطيني المعني بهذه المسألة أكثر من غيره، لأنّها تخصّه مباشرة وتخصّ قضيّته.
كما أسلفت، فإنّ عمليّة أسر جنديّ، في حالة صراع مع الاحتلال، هي عمليّة مشروعة بحسب النواميس المتعارف عليها دوليًّا. لذا، فإنّ الحديث عن صفقة تبادل أسرى هو أمر مشروع أيضًا. لن أتحدّث في هذه المقالة عن صفقات تبادل الأسرى بين العرب وإسرائيل الّتي تمّت في الماضي وينتظر الجميع أن تتمّ أيضًا في حالة الأسير جلعاد شليط. لقد تطرّق البعض إلى مسألة حسابيّة تتعلّق بـ"كمْ يساوي أسير إسرائيليّ من العرب؟"، وما لهذه المسألة من أبعاد أخلاقيّة لها علاقة بقيمة الفرد العربي مقابل الآخر.
لا شكّ أنّ الأسير الإسرائيلي يحظى بمعاملة لائقة وإنسانيّة في الأسر الفلسطيني لما يمثّله من ورقة في أيدي الفلسطينيّين لإتمام صفقة تبادل الأسرى مع الجانب الإسرائيلي. لكن، ومن جهة أخرى، فإنّ صمت الكتّاب الفلسطينيّين على عدم إتاحة الفرصة للصّليب الأحمر بزيارة الأسير الإسرائيلي هو صمت معيب بكلّ المقاييس ويشكّل خللاً أخلاقيًّا، فلسطينيًّا، عربيًّا وإسلاميًّا.
كثيرًا ما يتساءل العرب بخصوص تشويه صورة العربي في الإعلام وفي الرأي العامّ في العالم. كلّ هذه التساؤلات نابعة برأيي من عدم فهم العربيّ لهذا العالم من حوله. مثلما أنّ هذا العالم لا يفهم العالمَ العربيَّ، أنظمته ومجتمعاته أيضًا. ناهيك عن أنّ صورة العربيّ مشوّهة في نظر العربيّ ذاته.
يستطيع الجانب الفلسطيني أن يُسجّل لصالحه نقاطًا أخلاقيّة واضحة أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي في هذه القضايا. لا أدري لماذا يترك العرب هذه الجوانب الأخلاقيّة للآخرين، ولماذا يصرّون على ترك هذه الساحة، كما لو أنّ القضايا الأخلاقيّة لا تعني العرب من قريب أو بعيد.
لهذا السّبب، يجب الخروج من خانة هذا الصّمت الفلسطينيّ والعربي المعيب أخلاقيًّا، ويجب إتاحة الفرصة لعائلة جلعاد شليط بزيارته في الأسر في غزّة، مثلما يزور الفلسطينيّون أسراهم في إسرائيل. أو يجب، على الأقلّ، إتاحة الفرصة للصّليب الأحمر بزيارة الأسير الإسرائيلي في غزّة والوقوف على وضعه. لمن لا يعرف هذه الأمور، فإنّ هذا هو صوت الضّمير الفلسطينيّ الأخلاقي الّذي يجب أن يصدر علانيةً، وهذا هو الصّوت الّذي يفهمه العالم المتحضّر ويتعاطف معه.
قد يثير هذا الكلام حفيظة الكثيرين، غير أنّي على يقين أنّه ما لم يعلُ هذا الصّوت وأصوات عربيّة أخرى في هذه القضايا فلا يعجبنّ أحدٌ من ذلك التشويه في الصورة العربيّة في العالم.
-------------
* سلمان مصالحة - ولد في 4 تشرين الثاني 1953 في بلدة المغار العربية في الجليل. في العام 1972 انتقل إلى مدينة القدس للدراسة الجامعية، وهو يعيش في المدينة منذ ذلك الوقت. درس في كلية الآداب في الجامعة العبريّة وحصل على شهادة الدكتوراة في الأدب العربي، حيث كتب أطروحة تبحث في المناحي الميثولوجيّة في الشّعر العربي القديم. عمل لسنوات مدرّسًا للأدب العربي في الجامعة العبريّة، كما وشارك في إعداد وتحرير المعجم المفهرس للشّعر العربي القديم، الّذي صدر منه مجلّد في العام 1999. يكتب باللّغتين العربيّة والعبريّة، كما يقوم بترجمة أعمال أدبيّة من العبريّة للعربيّة وبالعكس، بالإضافة إلى ترجمات من الإنكليزية. لقد صدرت له حتّى الآن 7 مجموعات شعريّة، كما أنّ مقالات ودراسات كثيرة بقلمه، في مجالات ثقافية، اجتماعية وسياسية بالإضافة إلى ترجمات من شعره، تظهر في دوريّات ومجلات وأنثولوجيّات عالميّة وبلغات مختلفة. عن مجموعته الشعريّة باللّغة العبريّة، "داخل المكان "، حاز على جائزة رئيس الدّولة للشّعر العبري.
المصدر: الأوان – من أجل ثقافة عقلنية علمنية تنويرية – http://www.alawan.org – الأحد 25 نيسان-أبريل 2010
|