تأسيس عصبة التحرر الوطني
في فلسطين وخطواتها الأولى
بقلم: د. ابراهيم حجازين*
(1)
مقدمة- كنت في مقالات ودراسات عدة سابقة نشرت في الحوار المتمدن، قد ناقشت بخطوط عامة التغيرات الاقتصادية – الاجتماعية التي جرت وحفرت عميقا في أوضاع فلسطين، تحت تأثير تطبيق المشروع الاستعماري البريطاني والاستيطاني الصهيوني، والتطور الذي أصاب المجتمع الفلسطيني وغير ببطء لكن بثبات في بنيته الاجتماعية، كما جرى توضيح دور الحركة الوطنية الفلسطينية وقياداتها التقليدية وارتباطاتها بحكم موقعها الطبقي مع الاستعمار والقوي الدولية وخضوعها للحكومات العربية والتي بدورها كانت تحت سيطرة النفوذ الاستعماري الغربي. كما تم توضيح موقع ودور الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كانت بدايته في أوساط التجمع اليهودي الاستيطاني الذي أنشأته الحركة الصهيونية. في هذا الجزء أتقدم خطوة للأمام لدراسة عملية تأسيس عصبة التحرر الوطني في فلسطين وكيف تطور موقفها من المتغيرات السياسية التي طرأت على القضية الوطنية للشعب الفلسطيني علنا اليوم نستفيد من تلك الدروس القاسية التي مرت على بلادنا وتكاد تتكرر نتائجها بنكبات جديدة نرى مقدماتها اليوم في ظل متغير دولي جذري لم يدخل بعد في حساباتنا تماما كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وإذا كأن في ذلك الوقت عذرا للقيادات في ضعفها وأميتها السياسية، فاليوم لن يكون هناك عذرا لأحد بعد تلك التجارب المريرة التي مر بها الشعب الفلسطيني بشكل خاص والشعوب العربية بشكل عام.
أدى التطور الحاصل في فلسطين في الثلاثينات وبداية الأربعينات من القرن الماضي وخاصة في الجانب الاقتصادي، إلى إنضاج ظروف لتشكيل قوى اجتماعية جديدة إلى جانب تلك الملازمة للعلاقات الاجتماعية التقليدية التي كانت سائدة في المجتمع الفلسطيني، التغيرات التي جرت عمقت من المحتوى الاجتماعي للنضال القومي التحرري للشعب العربي الفلسطيني، والتي أضافت عناصر جديدة للعلاقة بين القومي والاجتماعي للنضال القومي التحرري وللعلاقة بين المجتمع العربي مع اليشوف "التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين".
لم تكن القوى والأحزاب التقليدية في المجتمع العربي الفلسطيني في موقع ولم يكن يملك القوة أن بصيغ برنامجا يأخذ بالاعتبار التغيرات التي حدثت في البلاد بحكم قصوره الفكري والسياسي وتكوينه الاجتماعي، كذلك الأمر لكن لأسباب أخرى بالنسبة للحزب الشيوعي الفلسطيني.
الحزب الشيوعي الفلسطيني تصادم مع معيقات ذات طابع موضوعي وذاتي، بعضها له ارتباط بالعلاقات التقليدية السائدة في المجتمع العربي وبسبب ارتباط بداياته بالتجمع الاستيطاني الصهيوني لم يكن في وضع يؤهله لوضع برنامج تحرري فلسطيني، ومن هنا كأن صعبا على الحزب أن ينفد ويوسع صفوفه ونفوذه بين العرب الفلسطينيين بالرغم من أنه كأن على رأس الحزب أمين عام عربي وهو المناضل رضوان الحلو وكأن الرأي السائد بين العرب أن الحزب الشيوعي الفلسطيني هو حزي يهودي (مقابلة مع رضوان الحلو منشورة بمناسبة 10 سنوات على وفاته، مجلة النهج، العدد 10، 1985 ص: 275-279).
مع تلك المعيقات استطاع الحزب ببطء أن يوسع من تأثيره بين الجماهير العربية. وقد لعبت عدة عوامل في هذا الاتجاه. بعض الطلاب من الذين درسوا في أوروبا بنوا علاقات مع الأحزاب الشيوعية الأوروبية الغربية ومع عودتهم انخرطوا في الحزب الشيوعي الفلسطيني، آخرين تأثروا بشدة ببعض الشيوعيين العرب المعروفين خاصة من لبنان والذين كانوا لاجئين في فلسطين مثل رئيف خوري وسليم خياطة وآخرين غيرهم. وخلال ثورة 1936-1939 وبفضل سياسته الجديدة ظهرت ظروف جديدة مناسبة لعمل الحزب في الصفوف العربية. وهكذا بدأت تتشكل منظمات عربية مثل جمعية الطلبة العرب في القدس عام 1937 وكأن للشيوعي اللبناني المعلم رئيف خوري والناشط الشيوعي عبد الله ألبندك دورا هاما في تأسيس هذه المنظمة ( مقابلة عبد الله ألبندك، مجلة الكاتب، العدد74، القدس، 1986). وأصدرت الجمعية مجلة الغد، وفي فترة قصيرة وسعت الجمعية تأثيرها بين صفوف الطلاب العرب في مدن فلسطين الأخرى وبنت فروع لها في يافا وحيفا مما تطلب إعادة تنظيمها وخلال عام 1938 جرى تسميتها رابطة الطلاب العرب وفي دلالة على توسع تأثير هذه الرابطة بين صفوف المثقفين إلى جانب الطلاب أعلنت مجلة الغد عام 1941 أن رابطة الطلاب العرب تحولت إلى رابطة المثقفين العرب.
يتذكر توفيق طوبي وهو من أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني ولاحقا عضوا قياديا في عصبة التحرر الوطني الفلسطيني: لقد تعرفنا على العالم هكذا كما كأن يراه رئيف خوري دون أن نعرف توجهاتها الفكرية وانتمائه السياسي وقد عرفنا على عبد الله ألبندك وأسسنا جمعية الطلاب. واحد من بين نشطاء الجمعية كأن أميل توما الذي مثل الطلاب العرب في المؤتمر الدولي المنعقد في باريس عام 1937، وبشير توفيق طوبي أنهم لم يكونوا يعرفوا شيئا عن الحزب الشيوعي.
رابطة الطلاب ولاحقا رابطة المثقفين العرب و مجلة الغد لعبوا دورا كبيرا في نشر الفكر التقدمي والديمقراطي في المجتمع العربي الفلسطيني وعملوا على ربط نضال الطلاب والمثقفين العرب في فلسطين مع نضال الحركة الديمقراطية العالمية. وهكذا بدأ يتشكل رافد مهم في الحركة القومية العربية في فلسطين أعضائه وأنصاره ليسوا مرتبطين بالقيادة التقليدية للحركة القومية الفلسطينية وبالرغم من أنهم ليسوا أعضاء في الحزب الشيوعي الفلسطيني، إلا أنهم كانوا تحت التأثير النامي للأفكار الشيوعية وسبب هذه المفارقة أن الحزب الشيوعي الفلسطيني كأن يعيش في أزمة سياسية وتنظيمية عميقة.
لعب الصراع بين الأمين العام للحزب رضوان الحلو والعائد من موسكو بعد انتهاء دراسته هناك بولص فرح دورا في ظهور تيار فكري تقدمي عربي خارج صفوف الحزب، فحسب رأي عبد الله ألبندك كأن بولص فرح يطمح لمنصب الأمين العام ولهذا السبب تجمدت عضويته في الحزب في الفترة 1939-1940 ومن هنا بدأ فرح نشاط مستقل مع آخرين من بينهم إميل توما وفي عام 1942 أسسوا في حيفا نادي شعاع الأمل. واستطاع بولص فرح أن يقيم علاقات بين النادي ورابطة المثقفين العرب. ويمكن القول أن هذا النادي أصبح واحدا من مراكز الحياة السياسية، فقد وسع النادي من نشاطه بتأسيس فروع لرابطة المثقفين كما أبدى اهتماما بالعمل والنشاط الدعائي بين صفوف العمال.في ردة فعل من قبل الحزب الشيوعي لنشاط نادي شعاع الأمل قام بتأسيس نادي الشعب في حيفا لكن نشاطه كأن اضعف من أن يجذب إليه عضوية كبيرة. ويمكن أن كل ذلك يفسر ازدياد النشاط السياسي لفئات فلسطينية جديدة كانت خارج تأثير القيادات التقليدية للحركة الفلسطينية وقريبة من الفكر الديمقراطي والتقدمي.
خلال سنوات الحرب العالمية الثانية في ظروف نهوض الحركة الجماهيرية وخاصة العمالية استطاع نادي شعاع الأمل أن يؤسس اتحاد النقابات وجمعيات العمال العرب كمنظمة نقابية خارج اطر الحركة النقابية التقليدية في فلسطين وبحسب رأي النادي أنه من الضروري أن يتم تشكيل نقابة مستقلة للعمال لأن النقابات القديمة تقف مواقف إصلاحية وسياستها معتدلة ولا توافق مصالح العمال.
في الوقت نفسه كأن نادي الشعب المرتبط مع الحزب يقود سياسة كليا مختلفة في صفوف العمال، فهو من أنصار العمل والنشاط داخل النقابات القديمة لذا عمل بنشاط من اجل إعادة تنشيط جمعية العمال العرب، ولهذا تعاون الشيوعيون العرب مع سامي طه رئيس الجمعية في حيفا، وفي فترة قصيرة توسعت الجمعية في مدن أخرى.
كانت العلاقات بين اتحاد العمل وجمعية العمال متوترة مما أدى إلى صراع بين الأعضاء الشيوعيين ومجموعة حيفا-نادي شعاع الأمل ومنذ تلك اللحظة لعب الانشقاق في صفوف الحركة النقابية الفلسطينية دوره السلبي في الحركة العمالية الفلسطينية.
بالإضافة إلى الظواهر الجديدة في الحياة السياسية مثل إحياء الحركة النقابية وتشكيل نقابات وأندية جديدة وظهور حياة سياسية نشطة للمثقفين العرب في فلسطين. نشأت في مدن فلسطينية عديدة حلقات ماركسية. هذه العملية تطورت بفضل التغيرات في فلسطين والمنطقة والعالم وخاصة بعد الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي، وانتشرت الحلقات والمجموعات الماركسية في حيفا والناصرة ويافا وغزة والقدس وبيت لحم وبيت جالا وكما يقول المرحوم منعم جرجورة أن العلاقة بين هذه المجموعات والحزب الشيوعي الفلسطيني كانت تتمثل بأن معظم أعضاءها كانوا سابقا أعضاء في الحزب.
بعد انشقاق الحزب الشيوعي الفلسطيني على أساس قومي عام 1943 وقعت الحركة الشيوعية في أزمة داخلية عميقة. لكن بالتوازي مع هذا انتشرت الأفكار الماركسية في صفوف العمال والمثقفين والتعبير عن ذلك كأن انتشار الحلقات والمجموعات الماركسية في البلاد، ومن الواضح أن تلك المجموعات قد تلمست تأثيرها المتزايد بين السكان، لذا نراهم قد عملوا على تشكيل منظمة شيوعية تضم الشيوعيين العرب حتى قبل الانشقاق في صفوف الحزب الشيوعي.ويمكن ملاحظة أن عملية تشكيل منظمات وحلقات ماركسية تقوت بعد انتصار الجيش الأحمر في معركة ستالينغراد. ويؤكد منعم جرجورة في رسالة للباحث عام 1989 أن الماركسيين الجدد في عضوية هذه الحلقات كانوا أكثر عددا من الشيوعيين المعروفين.
تكشف هذه الأوضاع أنه في فلسطين تشكلت ظروفا مناسبة لتأسيس منظمة جديدة ذات قواعد واسعة في صفوف العمال والمثقفين خارج الأطر التنظيمية المعروفة للحزب الشيوعي الفلسطيني، لكن في تلك الظروف لم يكن بوارد القوى الماركسية الجديدة أن يتجاوزوا حقيقة أن أعضاء الحزب الشيوعي من العرب أيضا يجب أن يجدوا مكانا لهم في المنظمة المزمع تأسيسها.
بعد انشقاق الحزب الشيوعي الفلسطيني وضعف الجزء العربي من الحزب بشكل واضح زار كل من عبد الله ألبندك وإميل حبيبي من أعضاء الحزب دمشق وبيروت للتشاور مع القادة الشيوعيين المعروفين للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش وفرج الله الحلو، وهنا لا بد من الإشارة أن علاقات الحزب الشيوعي السوري لم تكن مقتصرة على أعضاء الحزب الشيوعي بل وكانت قائمة أيضا مع مجموعة حيفا. كأن رأي بكداش أنه على الشيوعيين العرب أن ينفصلوا عن الشيوعيين اليهود وأن يعملوا على تأسيس منظمة يسارية، بينما كأن رأي الحلو المحافظة على الطابع الأممي للحزب. في ظل تلك الظروف المعقدة حيث وصل الصراع في فلسطين إلى أوجه ساد الرأي القائل بضرورة تأسيس منظمة عربية جديدة تضم كافة المعنيين بالوضع القائم.
أن تحليل العملية التي أدت إلى تشكيل عصبة التحرر يكشف أنه عندما حصل الانشقاق في الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1943، في المجتمع العربي الفلسطيني تشكل تيار قومي ديمقراطي واسع. وكنتيجة لمبادرات عديدة تكرست النزعة لتنظيم وتوحيد كل قوى هذا التيار. وهكذا من بين صفوف الشيوعيين العرب وقادة المنظمات النقابية والجمعيات العمالية وأعضاء المجموعات والحلقات الماركسية وقادة رابطة المثقفين العرب في حيفا انبثقت عصبة التحرر الوطني في فلسطين.
تاريخ محدد واضح لانطلاقة العصبة لا يوجد. في الوثائق الرسمية للحزب الشيوعي الأردني الذي يعتبر وريث للعصبة يجري الحديث أن العصبة تأسست في نهاية أيلول عام 1943، ومعتمدا كما يبدو على نفس المصدر يشير المؤرخ والباحث ماهر الشريف أن العصبة تشكلت في بداية خريف 1943 لكنه يستدرك حقيقة أن العصبة قد أصدرت نشرتها الأولى الذي تضم برنامجها عدة أشهر بعد ذلك التاريخ أي عام 1944. مؤرخين آخرين كموسى البديري وسميح سماره يؤكدون على عام 1944، بينما منعم جرجورة أحد مؤسسي العصبة يقول في رسالته المشار إليها أن العصبة تأسست رسميا عام 1945، عندما عقدت مؤتمرها الأول، وحسب رأي جرجورة أن التواريخ المذكورة 1943 و1944 مرتبطة بالنشاطات التي سبقت تأسيسها. يؤكد ذلك أيضا المشارك النشط في الحركة الشيوعية زاهي كركبي الذي يشير أن تأسيس العصبة مر بمرحلة إعداد تطلبت فترة زمنية ليست بالقصيرة، لكنها أعلنت رسميا عام 1945.
لم يتم العثور على أي من الوثائق التي تشير لتأسيس العصبة عام 1943، لكن لا بد أن نشير انه في هذا العام كانت الحوارات لتأسيس منظمة عربية في بداياتها خاصة وان الأزمة في الحزب الشيوعي كانت في أوجها، لهذا اعتقد أن عام 1943 لا يمكن اعتباره عام تأسيس العصبة.
من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار أن نشأة العصبة كان نتيجة توجه مجموعات وحلقات ماركسية وديمقراطية عديدة لتشكيل منظمة عربية جديدة. وساعد في هذه العملية التاريخية تواجد حركة ونشاط جماهيري واسع. فجاء تشكيل العصبة كمنظمة ذات عضوية متنوعة، وهذا عكس نفسه على طابع العصبة عند تأسيسها.
في نهاية عام 1943 عندما وصلت المنظمات الماركسية وخاصة تلك من حيفا إلى اتفاق مع أعضاء الحزب الشيوعي السابقين فتقدموا بطلب لحاكم المدينة لتسجيل الحزب الجديد عصبة التحرر الوطني في فلسطين كما يشير إلى ذلك الحدث عبد الله ألبندك.
وفي 1شباط 1944 أصدرت العصبة نشرتها الأولى، احتوت النشرة على بيان عام ووثائقها الأساسية- الميثاق الوطني والنظام الداخلي. وأعلنت اختيار موسى الدجاني كرئيس لها وإميل توما أمينا عاما.
(2)
يحدد البيان العام للعصبة الصادر في 1شباط 1944 المرحلة الراهنة التي تمر بها فلسطين بأنها مرحلة النضال من اجل الاستقلال الوطني. ويؤكد البيان أن النضال ضد الفاشية هي ضمانة من اجل السلام العالمي وذلك يتطلب إعطاء الشعوب حريتها وحقها في تقرير المصير، وتشير العصبة أن الحرب ضد الفاشية تلهم حركتنا الوطنية وتفتح الطريق أمام نشاط مثمر لتحرير الوطن. وبهذا البيان تؤكد العصبة نظرتها للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني كجزء من النضال العالمي ضد الفاشية. وهي تشير انه من الضروري وجود حركة وطنية موحدة تقود الشعب في النضال الوطني. وشرط هام لتحقيق الهدف هو الوعي الشعبي الذي يتطور تحت تأثير الأحداث العالمية، وانتصار القوى الوطنية في العالم والدول العربية. وطرحت العصبة هدف رئيسي لها تشكيل تحالف قومي شعبي، وبهذا رمت العصبة إلى إيضاح بعدها عن القيادة التقليدية من خلال تشكيل تحالف واسع شعبي.
الفكرة الرئيسة للبيان الوطني للعصبة تمركزت حول تنظيم النضال من اجل تحرر واستقلال فلسطين، لذا دعت العصبة كل قوى الشعب أن تتوحد في جبهة وطنية، وصاغت العصبة برنامجها والموجه نحو كسب القاعدة الاجتماعية العريضة القادرة حقا على توحيد كل طبقات وفئات الشعب الفلسطيني.
تشير العصبة في وثائقها أيضا للوسائل والأساليب التي ستحقق من خلالها أهدافها، وهنا تشير العصبة أنها ستستخدم النشاط الوطني السياسي المشروع ومن هنا أعلنت النضال السلمي كشكل وحيد للنضال، وإلى جانب هذا طرحت العصبة مهمة رفع مستوى الوعي الوطني للعرب الفلسطينيين وعلى هذه القاعدة أن تقوي من المقاومة للفاشية. وهذا سيتم من خلال إصدار الصحف والمجلات والنشرات والدعوة للاجتماعات والتجمعات.
البرنامج الوطني للعصبة تضمن 19 نقاط سبعة منها حول المسألة القومية التحررية، والنقاط الباقية تتعلق بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية. في الجانب السياسي تشير العصبة أن هدفها هو التحرر الوطني واستقلال فلسطين وتوطيد العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البلاد العربية وفلسطين، وجعل العلاقة مع بريطانيا طبيعية على أساس مبدأ المساواة والعدالة، وفيما يخص اليهود طالبت العصبة بوقف هجرتهم ووقف انتقال الأراضي العربية إلى الأيدي الأجنبية. كما ربطت العصبة النضال من اجل الاستقلال مع ضمان الحريات الديمقراطية العامة والفردية، مثل حرية العقيدة والتعبير والصحافة والاجتماعات وتشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات، واحترام المعتقدات الدينية للإنسان. أما بالنسبة لإدارة البلاد عبرت العصبة في البرنامج أنها يجب أن تتحقق من جانب الشعب العربي الذي سيعطي الحق لكل الأقليات أن تعيش بسلام في وطن عربي حر هو فلسطين.
تحليل البرنامج السياسي للعصبة يكشف أنها بدقة حددت الهدف الرئيسي وهو استقلال فلسطين، ووضحت الطابع بواقعية الطابع الديمقراطي للدولة الفلسطينية المستقلة كما رسخت أساس للعلاقات المستقبلية المطلوبة مع بريطانيا. وموقفها من الهجرة والاستيلاء على الأراضي كان يعبر عن المطالب العربية في فلسطين كذلك الأمر بالنسبة لمطلبها بإقامة الدولة العربية، مع الإشارة لضرورة طمأنة الأقليات باحترام حقوقها. لابد من التوضيح هنا أن العصبة بدت وكأنها تتغاضى عن مسألة الوجود اليهودي الذي ازداد عددا وقوة ولم تضع سياسة في بداية نشأتها للتعامل مع هذه المسألة الخطيرة بالنسبة لمستقبل البلاد خاصة وان التجمع الاستيطاني اليهودي أصبح قويا لدرجة التحضير لإعلان كيانه السياسي في تلك الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية.
فيما يخص السياسة الاقتصادية والاجتماعية صاغت عصبة التحرر مطالبها معبرة عن مصالح أوسع الجماهير الشعبية وخاصة العمال والفلاحين والمثقفين، دون أن تغيب دور ومصالح الطبقات والفئات الاجتماعية في التحرر الوطني لهذا أكدت في برنامجها على مصالح المنتجين في القرية والمدينة، ومن هنا كان مطلب العصبة بضرورة رفع المستوى المعيشي للفلاح الفلسطيني وضرورة إقرار تشريع في مصلحة الشغيلة وتطوير الثقافة والفلكلور والعلماء والمختصين.
كان واضحا توجه العصبة لتصبح المعبر عن مصالح كل طبقات المجتمع الفلسطيني، عدا تلك المرتبطة بالاستعمار. وحسب رأي العصبة انه بهذا يتم بناء القاعدة لتوحيد السكان الفلسطينيين في النضال ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية.
وأشارت العصبة انه لتطوير الاقتصاد الوطني لا بد من تنشيط التجارة والاقتصاد الريفي، واستيراد الآلات الزراعية وضمان المواد الأولية والتوسع في الري الاصطناعي وتطوير والدفاع عن الصناعة الوطنية وتحسين الطرق بين المدن والقرى.
كان النظام الأساسي للعصبة تعبيرا منطقيا عن برنامج وطابع ومكونات وجذور العصبة. ففي النظام الداخلي تفتح أبواب العضوية للعرب، الذين يقبلون برنامج ونظام العصبة الداخلي ويعملون في إحدى منظماتها ويدفعون الاشتراك المالي، الذي حدد حسب قدرات المتقدم للعضوية مما يفتح باب العضوية واسعا أمام الكادحين. في النظام الداخلي عرفت نفسها كطليعة للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين،كما أعطت الحق لأي عربي دون تحديد طبقي أن يصبح عضوا فيها.
أكدت العصبة في نظامها الداخلي أن مبدأها التنظيمي يقوم على أساس المركزية الديمقراطية، وهذا التحديد بالذات دفع العديد من الباحثين أن يصفوا العصبة كحزب شيوعي قومي، مع أن القبول بمبدأ المركزية الديمقراطية لا يعني أن العصبة حزب شيوعي، لكن ظهوره في أدبيات العصبة كان محددا بظرف أن معظم أعضائها كانوا أعضاء سابقين في الحزب الشيوعي الفلسطيني أو ماركسيين ونقلوا بالتالي تجربتهم التنظيمية إلى المنظمة التي أسسوها، لكن لم يتطرق أي من البرنامج أو النظام الداخلي إلى صيغة تبني العصبة للفكر الماركسي-اللينيني كما دأبت أن تفعل الأحزاب الشيوعية في ذلك الحين.
مع إعلان برنامج العصبة ونظامها الداخلي ظهرت إلى الوجود منظمة سياسية جديدة، إن كان من ناحية طابعها او مكوناتها ونشاطها، أو من ناحية تميزها عن القوى السياسية التقليدية. وهكذا مثل هذا بداية مرحلة جديدة في نضال الجماهير الشعبية. حيث لأول مرة يتم وضع مصالح هذه الجماهير ومطالبها كأساس لبرنامج قوة سياسية فلسطينية المرتبطة بالعمل من اجل التحرر والاستقلال الوطني. وبهذا أصبحت العصبة ممثلا لمصالح أوسع الجماهير في النضال من أجل الاستقلال القومي في فلسطين.
إذن جاء تأسيس عصبة التحرر الوطني في فلسطين محددا بالتغيرات الموضوعية التي جرت في البلاد وما ترتب على تطبيق المشروع الاستعماري البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني. فكان لظهور قوى اجتماعية جديدة في المجتمع العربي الفلسطيني، خاصة في ظروف الحرب العالمية الثانية، وإنعاش وإحياء الحركة العمالية النقابية وتوسع النزعات الديمقراطية في أوساط المثقفين الفلسطينيين وكذلك الأمر انتشار الأفكار الاشتراكية الفضل في تشكيل منظمة لم يعرف مثلها المجتمع الفلسطيني من قبل. لكن لا بد أن نتطرق إلى واقعة سيكون لها الأثر على مستقبل العصبة ويفسر بهذا الشكل أو ذاك الخلافات التي كانت تكمن خلف وحدتها التنظيمية ونشاطها الجماهيري، يقول موسى قويدر وهو مناضل نقابي نشط منذ النصف الثاني من الثلاثينات وأصبح لاحقا من قادة الحزب الشيوعي الأردني ومن الذين انضموا مبكرا للعصبة: في عام 1944 عقد اجتماع بين شيوعيي العصبة والحزب في سبيل توحيدهم ترأسه مخلص عمرو، وحضره أميل توما، وتوفيق طوبي، وأميل حبيبي، ومحمد نمر عودة، وخليل شنير، وغيرهم، شعرت في هذا الاجتماع أن هناك خلافا عميقا بين الطرفين فخرجت من الاجتماع عضوا في عصبة التحرر الوطني، وأيضا عينت سكرتيرا للجنة يافا.( عناد أبو وندي –الحوار المتمدن،لمحة عن حياة النقابي موسى قويدر) يبدو أن هذا الاجتماع قد جرى بعد إعلان العصبة لبيانها الأول ويشير أن الخلافات بين المكونات الرئيسة للعصبة كانت مستمرة وسنلاحظ ذلك بتواتر خلال مسيرة العصبة اللاحقة.
وكان معظم المبادرين لتشكيل العصبة ذو علاقة بهذا الشكل أو ذاك إما بالحزب الشيوعي الفلسطيني أو بالأفكار الماركسية لكنهم بوعي ناضج لم يتطرقوا إلى اعتناقهم الأيديولوجية الاشتراكية وكما اعتقد أن ذلك ينبع من تشخيصهم لطبيعة المرحلة التي كانت فلسطين تمر بها. ومن هنا جاء سعي مؤسسي العصبة لجذب أوسع الجماهير الشعبية للنضال الوطني من خلال إنشاء منظمة تتميز بسمات خاصة، تميزها كمنظمة يسارية مرتبطة بالطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والطلبة والتجار الصغار والحرفيين وهم الفئات الأكثر معاناة من المشروع الاستعماري الاستيطاني والأكثر استعدادا للنضال والتضحية في سبيل القضية الوطنية.
كانت عملية تشكيل العصبة ذات طبيعة متناقضة. وهي نابعة من ظروف فلسطين الخاصة كنتيجة لتحقيق المشروع الصهيوني من جهة وبالتالي كانت العصبة ذات طابع وطني تحرري، ارتبطت المنظمة بالأفكار الديمقراطية التي فرضها الكفاح العالمي ضد الفاشية، ومن جهة أخرى أنشئت العصبة كجزء من الحركة القومية العربية في فلسطين في ظروف الصراع والتناقض الحاد والعداء العربي للوجود اليهودي على الأرض الفلسطينية. وهذا حد من قدرة العصبة على صياغة برنامج تحرري قادر على تلمس الضرورات الجديدة التي يفرضها الوجود الاستيطاني والوقائع المفروضة. لكن رغم هذه النواقص شكل تشكيل العصبة عامل إيجابي في النضال القومي الفلسطيني، فللمرة الأولى تظهر منظمة مختلفة كليا عن القوى السياسية السائدة في المجتمع، ومن هنا دلت التجربة التاريخية إمكانية بناء أحزاب جماهيرية واسعة بتوجه يساري دون التقيد بتوجه أيديولوجي محدد. وأعطى تشكيل العصبة ليس فقط للحركة الوطنية الفلسطينية لكنه حدد موقع القضية الفلسطينية كجزء من النضال العالي ضد الفاشية. ولهذا الهدف أصدرت العصبة نشرات أسبوعية توضح من خلالها رؤاها وفهمها للعديد من القضايا الدولية والمحلية.
حددت العصبة كما يظهر من أدبياتها طابع الحرب العالمية الثانية انطلاقا من الواقع الفلسطيني كحرب وطنية تحررية ضد العدوان النازي ويشير إميل توما سكرتير العصبة في نشرتها الرابعة أن هزيمة النازية تعني تحرير الشعوب التي ستقرر مصيرها بنفسها ويقول أن اتحاد عظيم يضم شعبنا مع شعوب الاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمي وأوروبا والشعوب الأخرى، وان حركتنا الوطنية هي حركة تحررية تربط مصيرها بمصير تلك الشعوب التي تناضل من أجل حريتها.
بهذه الطريقة وللمرة الأولى يقوم تيار سياسي فلسطيني وبشكل واضح بتحديد موضعه في الصراع العالمي أي إلى جانب الشعوب ضد الفاشية، وهنا ترفض العصبة التوجه لربط مصير القضية الفلسطينية بالدعاية الفاشية التي وجدت لها طريقا في فلسطين في تلك الظروف. وكان هذا يعبر عن القناعة العميقة المتولدة لدى العصبة بأن انتصار الشعب الفلسطيني مرتبط بنضاله مع باقي الشعوب من أجل السلم والديمقراطية في العالم.
قادة العصبة كانوا على معرفة بضرورة الوحدة وتشكيل جبهة موحدة لكل الطبقات والفئات الاجتماعية للشعب. وهذا الموقف كان مبنيا على الاستنتاج الصائب أن الاستقلال الوطني يمثل مصلحة لكل الشعب. وبشكل صحيح ربطت العصبة مصلحة مختلف الطبقات بهذا الهدف، لذا دعت كما ورد في مقال موسى الدجاني رئيس العصبة العمال والفلاحين والمثقفين والتجار والصناعيين للنضال العام لتحقيق ذلك الهدف.
إلى جانب النشاط الدعائي والتحريضي أعطت العصبة اهتماما كبيرا للعمل الجماهيري. وأقامت لهذا الهدف علاقات وثيقة مع رابطة المثقفين وعصبة مكافحة النازية ومع اتحاد النقابات والجمعيات العمالية، كما أن عددا كبيرا من عضويتها من العمال كانوا أعضاء في جمعية العمال العرب الفلسطينيين.
--------------
* د. ابراهيم حجازين - ibrahzin2@yahoo.com, باحث من الأردن حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ العربي المعاصر من بلغاريا عام 1991. يعمل مدرسا للمرحلة الثانوية في مدرسة خاصة في عمان ومدرس غير متفرغ في كلية الاردن الجامعية. ناشط في العمل السياسي وعضو المجلس العلمي لمركز عمان لدراسات حقوق الإنسان. له عدة دراسات في القضية الفلسطينية.وفي مجال حقوق الانسان. المصدر: الحوار المتمدن - www.ahewar.org- العددين: 3048 – 29.6.2010, و-3050 - 1.7.2010
|