في ذكرى الشيوعي
سليمان النجاب (أبو فراس)
1934-2001
كان سليمان رشيد النجاب (أبو فراس) - عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية - قد امضى عشرة اعوام في سجن اردني بسبب نشاطاته الشيوعية. وغداة حرب يونيو-حزيران عام 1967 انضم الى الكفاح الفلسطيني السري. في عام 1974 اعتقلته سلطات الإحتلال الاسرائيلية وفي عام 1975 أبعدته إلي لبنان. في عام 1994 عاد الى فلسطين.

سليمان النجاب وتجربة الاختفاء
بقلم: محمود شقير*
حينما كان سليمان مطارداً من سلطات الاحتلال، لم يتوقف عن ممارسة نشاطه الحزبي. كان يختار الوقت المناسب للخروج من بيته السري إلى بيوت أخرى لقيادة الاجتماعات. أحد هذه البيوت هو بيت ابراهيم يوسف (أبو مايك) الكائن في مخيم الدهيشة. المخيم متمدد على صفحة الجبل، ومن جهته الأمامية يمتد شارع القدس- الخليل، والبيت ليس بعيداً من الشارع، وأمام البيت بستان في وسطه غرفة صغيرة، والغرفة كانت مقراً لاجتماعاتنا.
كنا معنيين بألا يلاحظ أحد في الجوار أن ثمة أشخاصاً غرباء في البيت. نأتي بهدوء ونغادر في هدوء، وكانت أسوأ اللحظات حينما ينتهي الاجتماع ولا نتمكن من المغادرة بسبب وجود ضيوف في البيت، أو بسبب وجود جارات جئن لزيارة جارتهن ربة البيت. كنا في مثل هذه الحالة ننتظر، إلى أن يغادر الزوار أو إلى أن تغادر الجارات البيت.
في هذه الغرفة اجتمعنا، سليمان وأنا، مرات عديدة. آتي إلى الاجتماع ومعي مجموعة من التقارير عن نشاط منطقة القدس. نتدارس معاً هذه التقارير، ثم يأخذها سليمان لإطلاع قيادة الحزب عليها، وحينما ينعقد اجتماع لقيادة منطقة القدس، تكون هي وغيرها من التقارير والأنشطة على جدول أعمال الاجتماع.
من بين اجتماعاتنا العديدة في هذا البيت، الاجتماع الذي جاء بعد وفاة والدة سليمان. ذهبتُ مع رفاق آخرين لتشييع جثمانها في قرية جيبيا، ولم يتمكن سليمان من الحضور بسبب اختفائه القسري. كان المشهد مؤثراً حيث تموت امرأة، ولا يتمكن ابنها من توديعها الوداع الأخير. دفنت الأم في فسحة أمام بيت العائلة. وبعد أيام قليلة التقيت سليمان في بيت أبي مايك في المخيم. كان حزيناً لفراق أمه ولعدم تمكنه من مشاهدتها قبل وفاتها، أو حضور جنازتها. كان حزيناً ومتألماً.
من البيوت التي عقدنا فيها عدداً من الاجتماعات، بيت الدكتور أحمد حمزة النتشة الواقع بالقرب من قبة راحيل على مشارف بيت لحم. كان الدكتور أحد أعضاء لجنة منطقة القدس قبل أن يصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب. يأتي سليمان في الصباح المبكر إلى بيت الدكتور، ثم نأتي نحن بقية أعضاء لجنة المنطقة، لحضور اجتماع دوري ينعقد مرة كل ثلاثة أشهر.
كانت اجتماعات لجنة المنطقة تكتسب أهمية بحضور سليمان، إذ تُطرح فيها قضايا تنظيمية وسياسية متنوعة. تشكلت هذه اللجنة بعد هزيمة حزيران مباشرة، في اجتماع موسع في القدس، قاده فائق وراد ونعيم الأشهب. كان الحزب خارجاً من حملات اعتقال متلاحقة شنتها ضده أجهزة الأمن الأردنية في السنوات التي سبقت الهزيمة، ما أدى إلى تقليص عدد أعضائه. في نهاية الاجتماع انتخبتْ لجنة منطقة للقدس وبيت لحم والخليل، ضمت في عضويتها كلاً من الدكتور أحمد حمزة النتشة، المهندس حسني حداد، ابراهيم يوسف، سعيد مضية، سليمان الحنا، والمهندس شفيق صوفان (هل نسيت أحداً؟). انتخب سعيد مضية عضواً في اللجنة وهو في السجن الإسرائيلي، وبعد الإفراج عنه لم تلبث سلطات الاحتلال أن أبعدته من أرض الوطن.
بعد سنة أو أكثر قليلاً، أصبحتُ عضواً في لجنة المنطقة، ثم عضواً في مكتبها مع حسني حداد وابراهيم يوسف. وبعد ثلاث سنوات، جرت تعديلات على اللجنة، ثم تشكل مكتبها من: عبد المجيد حمدان، عطا الله الرشماوي، محمد أبو غربية، ومحمود شقير. وكان سليمان يشرف بين الحين والآخر على اجتماعات المكتب ويطلع على نشاطاته أولاً بأول.
من الاجتماعات التي ما زلت أذكرها في بيت الدكتور أحمد حمزة النتشة، ذلك الاجتماع الذي أخبرنا فيه سليمان عن انشقاق في الحزب (كنا آنذاك أعضاء في الحزب الشيوعي الأردني). حدث الانشقاق في عمان بعد معارك أيلول بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية. لم أتوقع أن يحدث انشقاق في الحزب، مع أن مثل هذا الانشقاق حدث في أحزاب شيوعية عديدة في أوقات سابقة، فلماذا لا أتوقعه!
كان سليمان معنياً بألا يمتد الانشقاق إلى فرع الحزب في الأرض المحتلة، وكنا معنيين مثله بذلك. ثم وقعت انشقاقات أخرى وعمليات توحيدية للشيوعيين، عايشها سليمان كلها تقريباً وعايشتها أنا وغيري من أعضاء الحزب كذلك، وقد تعلمنا منها دروساً حول أهمية الديمقراطية في الحياة الداخلية للحزب، وفي حياة المجتمع.
ولطالما تردد سليمان، أثناء العمل السري وقبله، على بيت أبي وديدة الكائن في الطرف الجنوبي من مدينة بيت لحم. بيت هادىء من حوله جيران منشغلون بأحوالهم، فلا يراقبون من جاء ومن ذهب. تربَّت عطاف العاروري (أم وديدة) في بيت، أكثر بناته وأبنائه من المنتمين للحزب، ترحب بنا في بيتها بكل أريحية. زوجها أبو وديدة انتسب إلى الحزب بعد النكسة بأسابيع، وظل يتولى مسؤوليات تنظيمية حتى أصبح في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، المسؤول الأول في الحزب.
نلتقي في بيته ونعقد اجتماعات قد تقصر وقد تطول، بحسب الحاجة إلى ذلك. يقع البيت في الطابق الأول من بناية غير مكتظة بالشقق، ومن نافذة صالة الضيوف يمكن للمرء أن يرى بعض البيوت في الجهة المقابلة، ومن خلفها يمتد خلاء موصول بجبال موغلة في البعد. وعلى اليسار تظهر بعض أحياء بيت لحم وكنائسها. الحي بشكل عام هادئ، والاجتماعات تتم فيه دون أن تلفت انتباه أحد.
كان سليمان يعتني بالأطفال ويحب أن يمازحهم ويلعب معهم. وكانت ابنتا عبد المجيد حمدان، وديدة وسلام، تحظيان باهتمام خاص من سليمان، ما جعلهما متعلقتين به، تستقبلانه بصخب كلما جاء إلى البيت. وحينما ماتت وديدة وهي في عز الطفولة، بعد مرض عضال، تأثر سليمان بسبب وفاتها كثيراً، وظل يذكرها في مجالسه التي تضمه مع الأصدقاء، لوقت طويل.
وذات مرة، تفاقمت الخلافات داخل المنظمة القيادية في بيت ساحور، بسبب حساسيات شخصية بين أعضاء المنظمة، وبسبب اجتهادات متباينة حول أساليب العمل التي ينبغي أن يتبعها أعضاء الحزب في البلدة. قرر سليمان أن يذهب لزيارة المنظمة واللقاء مع أعضائها، لعله ينجح في حل خلاف لم يفلح عدد من أعضاء الحزب القياديين في حله.
ذهب مساء إلى بيت ساحور. تعرف إلى أعضاء المنظمة القيادية وظلت هويته مجهولة بالنسبة لهم (سألني جمال بنورة غير مرة عن هذا الرفيق الذي جاء إلى بيت ساحور مرتدياً كوفية وعقالاً، ولم يسبق له أن قابله أو رآه، فلم أكشف له عن اسمه، ولم يعرفه جمال إلا حين ألقي القبض عليه بعد سنتين وراحت الصحف تنشر صوره وتتحدث عنه).
كانت المنظمة القيادية تضم في صفوفها عمالاً وتجاراً ومثقفين، وفي هذا التباين في الانتماءات الطبقية أحد مؤشرات الخلاف بين أعضائها. أمضى سليمان ثلاث ساعات وهو يحاول محاصرة الخلاف وتذليله دون جدوى، بل إنه اصطدم مع بعض أعضاء المنظمة واحتد الحوار بينه وبينهم. تلك كانت واحدة من المرات القليلة التي أخفق فيها سليمان. كان منزعجاً بعض الشيء وهو يتحدث عن نتائج هذا الاجتماع.
وكان يأتي إلى نابلس. بعد أن أصبحتُ عضواً في قيادة الضفة الغربية، ترددت على ثلاثة بيوت في نابلس لحضور اجتماعات، كان سليمان حاضراً فيها مع بقية أعضاء القيادة، الذين بلغ عددهم أحد عشر عضواً حتى أواسط السبعينيات من القرن العشرين. البيت الأول هو: بيت خلدون عبد الحق. لم أعرف اسم الحي الذي يقع فيه البيت، إنه في منتصف المسافة إلى قمة جبل عيبال.
البيت الثاني هو بيت عربي عواد. لم أعد أذكر موقعه لكنه أقرب إلى وسط البلد، وهو في سفح جبل عيبال كذلك. حضرت فيه اجتماعاً واحداً لقيادة الضفة الغربية. بعد ذلك لم نعقد أي اجتماع في هذا البيت، بسبب قيام سلطات الاحتلال بإبعاد عربي عواد مع سبعة شخصيات فلسطينية أخرى إلى الأردن.
البيت الثالث هو بيت خليل حجازي. وهو أقرب إلى وسط البلد أيضاً، ويقع في جبل جيرزيم. حضرت فيه اجتماعاً واحداً أو اثنين. كانت اجتماعات قيادة الضفة الغربية تعقد مرة كل ثلاثة أو أربعة أشهر. وكنا نأتي إليها مبكرين، ثم نغادرها في حذر، فلا نخرج في جمهرة واحدة، بل نخرج واحداً واحداً أو اثنين اثنين! وسليمان يأتي مبكراً جداً، ويغادر مع عودة العمال إلى بيوتهم قبل المساء بقليل.
ولم تنقطع الصلة بين سليمان ورفاقه طوال فترة اختفائه. التقينا في بيوت كثيرة، وفي بعض الأحيان كان يأتي إلى بيتي في جبل المكبر، ولم أشاهده في بيت محمد أبو غربية في حي الثوري إلا مرة واحدة. جاء مع المساء وكانت الدنيا في عز الصيف، حضر اجتماعاً لنا وخرج بعد العاشرة. ولم أكن أعلم أنه يقيم على مسافة ما من هذا البيت الذي نجتمع فيه. لم أعلم بذلك إلا حينما نصبت له أجهزة الأمن الإسرائيلية كميناً على مقربة من البيت، وألقت القبض عليه وهو خارج إلى إحدى مهماته الحزبية، ذات صباح مبكر من شهر نيسان العام 1974.
كان سليمان يجيد التخفي، وله في ذلك خبرة كافية، غير أنه وقع في قبضة أجهزة الأمن نتيجة اعتراف.
---------
* المصدر: "مرايا الغياب - يوميات الحزن والسياسة" (فصل) للكاتب محمود شقير, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 2007.
|