מאמרים
היסטוריה, זיכרונות
תרבות
Français English عربى  Etc.

حوار مع الروائي والشاعر المغربي الطاهر بن جلون

بقلم: جمانة حداد*

بعض الأدب يصيب القارىء بمرض "السكّري" لفرط حلاوته

لم نزل نخلط بين الحياء والجبن في العالم العربي

 

" في لحظات الوحدة القاتلة والحزن الشديد، أقرأ الشعراء. الشعر يعينني على العيش، يمكّنني من الصمود. إنه يفتح ذراعيه ويتلقّـاني". الطاهر بن جلون

 

العينان تبرقان والبديهة مترصّدة والابتسامة فيها الكثير من الدهاء. من هو الطاهر بن جلون اليوم؟ تساؤلات والتباسات لا تُحصى تحيط بهذا الكاتب الذي فرض موهبته شرقا وغربا، تساؤلات والتباسات هي ربما جزء لا يتجزأ من هوية شاعر يروي القصص من دون أن يخون شاعريته لحظة واحدة، ومن جوهر رجل متحفظ لا يرفع النقاب إلا لكي تسطع "عتمته الباهرة" اشدّ وأعمق.

 

 

من هو الطاهر بن جلون إذا؟ أهو الروائي الحائز جائزة غونكور، الذي ترجمت أعماله رواية وشعرا وبحثا إلى عشرات اللغات، وذاع اسمه في العالم أجمع، أم المثقف الجريء الذي لا يتردّد في قول كلمته مثيرا الجدالات والإشكاليات؟ أهو المغربي الذي لم يتخلّ عن مغربه على مرّ أكثر من ثلاثين مؤلفا، أم ذاك الذي لم يتخلّ مغربه عنه وأدمن سكناه وسـكن كلماته، بدءا من روايته الأولى " Harrouda " مرورا بـتحفته "ليلة القدر" وصولا الى مولوده الأخير "قصص حب سحرية"؟ أهو الكاتب والمفكّر الذي يساهم على نحو منتظم في لا ريبوبليكا ولا فانغوارديا والاسبريسو ودي تزايت، أم الأب الذي يصطحب أولاده الى المدرسة صباحا وتزقزق نظراته كطفل عندما يروي لنا أن ابنه الصغير، حين يُسأل "أين يكتب والدكَ يا شاطر؟"، لا ينفكّ يجيب: "على الأوراق طبعا!".

 

" أفك ّ ر باستمرار في العالم العربي وفي مسلسل الإنحطاط الذي انحدر إليه رويدا رويد ا، إ نحطاط أصبح بالنسبة إليه سجنا ومأساة ومصيرا "، كتب الطاهر بن جلون أخيرا في النوفل اوبسرفاتور. التقينا صاحب هذا الكلام والكثير غيره في باريس، وكان بيننا حوار حول الأدب والدهشة والسجن العربي والحجاب والصداقة والإصدارات الأخيرة. حوار شفّاف على ظلال وخصب على تكثيف، مفتوح انفتاح النافذة التي تنزل منها السماء في سقف مكتب الكاتب.

 

* جاءت ولادتك الأولى من رحم الكلمة إلى عالم الشعر. إذ شرعتَ في كتابة القصائد، وصدر ديوانك الأول عام 1972. لكنك سرعان ما كرّست نفسك للرواية، مع بعض العودات القصيرة الى الشعر. لم هذا التحوّل؟

 

صحيح أن نصوصي الأولى قصائد، لا بل إن تعبيري الأثير هو الشعر، ولكن هل أنا شاعر؟ ليس لي الحكم في ذلك. فالشعر ليس مهنة، إنه حالة، ونعمة نادرا ما تحلّ. الشعر لا يُدعى، لا يُنادى، لا يُكتب على الطلب. إنه يأتي من تلقاء عنفه وجنونه وصفائه. يجتاحنا. تولد فجأة في داخلنا حاجة ملحة وطارئة الى كتابته. لا يسعنا الرفض. وأحياناً كثيرة يمتنع عن القدوم مهما توسّلناه. ولهذا السبب ثمة عدد قليل جدا من الشعراء الكبار. أما الرواية فلا تتبع هذه الشروط. الرواية تحكي قصّة، قصّة يمكننا أن نخترع فيها أن نهلوس أن نتخذ القرارات أن نحيد عن الدرب. مع الشعر لا قرارات: إنه صاحب القرار الوحيد، وهو متطلب ودقيق جدا، أكاد أقول ماتيماتيكي في تشدّده. فضلا عن ذلك، إن العصر الذي نعيش فيه لا يحبّ الشعر، بل يؤلّه البضاعة، المنتج التجاري، أكان هذا المنتج شيئا أم إنسانا أم جسد امرأة ام نجومية ما. نعيش في عالم لا يفسح مكانا سوى للسلعة، والشعر هو المفهوم المضاد للسلعة بامتياز. إنه خلاصة المجانية.

 

* إذا الرواية في رأيك هي أكثر اقترابا من مفهوم "البضاعة"؟

 

لا، لم أعن ذلك، لكنّ الرواية ترافق العصر، هي مرآته، أي أنها أكثر قدرة على احتمال بشاعته. أما الشعر فقدره أن يقلب العالم رأسا على عقب، على غرار ما فعله السورياليون في العشرينات مثلا، عندما تمردوا على عصر صار خلوا من الدهشة والمفاجآت والخلق، فحرّروه وأنقذوه بشعر صاعق غير منتظر. الآن لا ارى الكثير من الشعراء الجدد الذين يبرزون ويحرّرون، لا في العالم العربي ولا في الغربي. أكرر، نحن نعيش في عالم بلا شعر، وأسفنا الكبير هو أن كبار الشعراء المعاصرين، على غرار ايمي سيزير، محمود درويش، إيف بونفوا، وسواهم، ليسوا على تناغم مع زمنهم. يقام مثلا في فرنسا الكثير من مهرجانات الشعر، وأنا أحرص على متابعتها لكي أرصد تطوّر الأمور. لكن ما أراه غالبا هو مغنّ يكتب ثلاثة أسطر ويعتبر نفسه "شاعرا". إنها مهزلة. ليس ذلك تصوّري للشعر على الاطلاق. بل ينبغي على هذا أن يكون عصيّا على اللوم، ساطعا ماحقا نقيّا لا عيب فيه. عالمنا محكوم بالبراغماتية والفردانية والعنف، هو ليس عالم هدوء وتأمل وتفكير. وافضل دليل على ذلك سلوك الولايات المتحدة الاميركية خلال الأعوام الأخيرة، فهذا السلوك يشكل "نموذجا" للعالم أجمع، إنه يرسم المسار العام: اي عدم احترام القوانين، وسيادة منطق القوة والعنف على الحق، وتقديم المصالح الخاصة، وتأليه منطق التجارة. ربما سيشهد العالم بعد كل هذه الكوارث ولادة شعر جديد. لا أعرف، ولكن حان وقت اتخاذ موقف.

 

* في الحديث عن المواقف، انت مثقف ملتزم، تعبر باستمرار عن وجهات نظرك في مشكلات العالم، وتردد أن الكاتب يجب ان "يغرز قدميه اكثر في المجتمع المدني". لكنك تقول ايضا ان "الفن يدرك جماله الاقصى عندما يكون بلا جدوى"، وتؤكد ان لا افظع من الروايات الاجتماعية او النفسية او السياسية: فكيف يوفّق الطاهر بين التزام الكاتب ولا جدوى الكتابة؟

 

انا ملتزم مجتمعي كمواطن وإنسان. أما الكاتب فيّ فملتزم أدبه وكتابته ولامجانية هذين الأدب والكتابة بالذات. يجب أن نجتنب ما قام به الستالينيون في مرحلة ما، اي دعم الأدب "المناضل" وتعزيزه على حساب أدب الخلق الصافي. أعتقد أن ثمة التزاما هو خاص بالادب في ذاته، اي بمعنى التفكير في الكتابة والاخلاص لها. ينبغي ألا يمزج المرء بين فعل الكتابة وفعل الحضور في العالم. أنا ملتزم أدبي لأني أمين له، مثلما أني ملتزم مجتمعي لأني معني به، لأني رب عائلة وأقلق على مستقبل أولادي، ولا يسعني ان أكون منعزلا ومنسحبا وفي حال حياد، ولا أن ادفن رأسي في الرمل واقول: ما يحصل من حولي لا يعنيني. بل إنه يعنيني. ولا أقصد بذلك المجتمع الفرنسي فحسب، بل المغربي أيضا وخصوصا.

 

* فعلا، فأنتَ تعيش في فرنسا منذ نحو ثلاثين عاما، لكننا نلاحظ أن المغرب حاضر بقوة في جوهر رواياتك وفي روح اهتماماتك. هل هذا الحضور الدامغ تعبير عن انتماء مطلق لأرضك الأم ومسقط رأسك؟

 

هذا الحضور الدامغ، كما تقولين، سببه قوة المغرب، ولا فضل لي في صونه. إذن هو ليس تعبيرا واعيا بقدر ما هو انعكاس لسطوة بلدي عليّ وعلى خيالي ووجداني وصوتي وهذياني. فأنا أنتمي الى أرض تطبع أبناءها بقوة، أكانوا رسامين أم شعراء أم روائيين الخ... إنها بلاد تغذي دواخلنا بطريقة استثنائية ورائعة، تغذينا حقا. وواقع إقامتي بعضا من الوقت داخل المغرب يدعم هذه التغذية، فأنا أعيش الآن نصف السنة في فرنسا، والنصف الآخر في المغرب. وبسبب هذين الذهاب والعودة المستمرين يسعني أن "أرى" بلدي، أي أني ألاحظ فورا الأشياء التي تصدمني فيه وتلك التي أعشقها. أقضي الأيام الثلاث الأولى من وصولي كل مرّة في التأقلم، فالمجتمع الفرنسي "معقلن جدا"، إلى حد مغيظ ربما، وأعرف تماما ما ينتظرني فيه، على العكس تماما من المجتمع المغربي الذي لا يكف عن مفاجأتي، وعن إغاظتي أيضا على طريقته. لذلك ظللت مغربيا جدا، اي متجذرا في مجتمعي، هذا المجتمع الغني بمخيّلة رائعة. طبعا نحن نعاني مشكلات كثيرة، لكن الروائي كما تعلمين في حاجة الى المشكلات، لا الى السعادة.

 

* صحيح، فأنت الذي تقول إن السعادة ليست "أدبية"، كأنك تعني أن الكتابة مرادف للتعاسة... لا بدّ انك تعيس جدا، وربما عندما تصبح سعيدا ستكف عن الكتابة!

 

أصبح سعيدا؟ أرجوكِ، لا اتمنى لنفسي مصيرا كهذا! (يضحك). الناس السعداء مشبوهون ومثيرون للريبة. في اي حال، لا شك عندي في أن الكتاب "السعيد" ممل جدا. إنه في شكل ما الكتابة على طريقة باولو كويلو. الكتابة اللطيفة و"المهذبة". لا، ينبغي على الأدب أن يثير، أن يزعج، أن يقلق، أن يصفع. كأن نكون مثلا في السادسة عشرة من العمر ونكتشف كتابة سيلين، أو سالينجر، أو فولكنر... يا لها صدمة! أعتقد أن الاضطرابات هي التي تغذي الكتابة، والأدب الحقيقي لا يصل الا مع الاعاصير والعواصف، لا مع الهدوء المسطّح. ويُستحسن لمن ينشد الهدوء المسطّح أن يتناول حبة منوّمة. لا يمكن ان نصنع الادب بالمشاعر "الجيدة". بل من الضروري أن ندفع القارىء الى استثمار منطقه واحساسه وانفعالاته وخيالاته وعنفه. حتى ما يُسمّى "الواقع" غير موجود في الأدب. فالواقع مفهوم نسبي جدا. وكتابي الجديد، الذي سوف يصدر في شهر آذار في عنوان "الصديق الأخير"، يعالج موضوع هذه النسبية بالذات، التي قد تجعل الحياة كلها وهما كبيرا. النسبية اكتشاف يمكن أن يقلب الحياة رأسا على عقب، وقد اخترتُ تناولها تحديدا في إطار الصداقة لا الحب، لأن التوهم جزء من لعبة الحب، بينما الصداقة تجسد العلاقة بين إنسانين في كمال مجانيتها.

 

* ألاحظ أنك غالبا ما تتحدث عن الصداقة، ولديك أيضا كتاب آخر عنها في عنوان "رباط الأخوّة". هل لديك اصدقاء كثر؟

 

( يبتسم بتهكّم ينم عن ألم). كيف يمكن أن اجيب عن سؤال كهذا؟ (صمت). لا، في الواقع لا، لقد تعرّضتُ لخيانات كثيرة على مر الوقت، وحسبي أن اصدقائي يُعَـدّون على اصابع اليد الواحدة. أتحدّث عن هذا الموضوع في كتبي لأنه مؤلم، فأنا مقتنع كما ذكرت بأن على الأدب أن ينكأ الجروح، أن يكسر حواجز المجاملة والمسايرة وأن يوجع، وإلا سيتحوّل نثراً دلعاً من شأنه أن يصيب القارىء بمرض "السكّري" لفرط حلاوته. طبعا لا يعني ذلك أن الأدب دواء أو حلّ. فالكتابة لا تحدث تغييرا. جل ما تحققه هو أنها تجعل الإنسان والعالم أكثر قابلية لـ"المعاشرة".

 

* ولكن عندما كتبت "العنصرية كما فسّرتها لابنتي"، ألم تكن تأمل في إحداث تغيير ما؟

 

إسمعي، عندما كتبتُ ذلك الكتاب، كان 15 في المئة من الفرنسيين مع لوبين. أما اليوم، وبعد خمسة أعوام، فقد ارتفعت هذه النسبة الى 22 في المئة ! (يضحك). هذا لأبرهن لكِ مدى قدرة الكتب على إحداث أي تغيير. في أي حال، إن التحوّلات لا يمكن أن تتم إلا على مستوى الأجيال الشابة، أي من طريق التربية. وهي تتحقق بتراكم الصدمات المتتالية.

 

* أنتَ تصدم أيضا بتناولك مواضيع محرّمة غالبا، هي على علاقة بالجسد والجنس ووضع المرأة، مما يستفز قراءك التقليديين. فكيف يتلقى القارىء العربي كتاباتك هذه؟

 

تصوّري أن بعض غلف كتبي "الصادمة"، على غرار غلاف كتابي الأخير "قصص حب سحرية"، تُبدَّل في المغرب! انا لستُ استفزازيا، بل أشهد على الواقع بكل بساطة. أحاول رصد الاشياء غير المرئية، أي الامور التي تُخبأ في عتمة الجوارير، تلك التي يجب كتمانها وعدم تعريضها للضوء، وأولها العلاقة الجنسية، التابو الكلاسيكي عندنا نحن العرب. إذا ما تأملنا في تصاعد موجة الاصولية في العالم العربي-الاسلامي، سنكتشف انها في الاصل مشكلة جنسية، لا دينية. فما يربك الاصوليين في شكل خاص هو المرأة والجنس، لا مسألة أداء فروض الصلاة خمس مرات في اليوم. مشكلتنا الأساسية في العالم العربي هي علاقتنا بالمرأة، وهذه العلاقة هي في رأيي المؤشّر الأصوب والأدقّ للحكم على تقدم مجتمع ما او تخلّفه. سلوكنا مع المرأة ونظرتنا إليها يحددان مدى تطورنا، ويعبّران عن مشكلات ونزاعات اخرى أكثر خطورة. نحن في العالم العربي لم نزل نخلط بين الحياء والجبن، ولن تتغيّر الأمور سريعا. القوانين قد تتغير ربما، لكن الذهنيات لن تتبعها إلا بعد وقت طويل.

 

* أخال ان التطور المنطقي هو العكس، أي أن يؤدي تطوّر الذهنيات الى تغيير القوانين...

 

صحيح، ولكن التقليد والعائلة يضغطان الى اقصى الحدود على تصرّف الإنسان في عالمنا وعلى طريقة تفكيره. إنها موروثات ثقيلة لن تتغيّر من تلقاء نفسها. ودعينا لا ننسى كذلك تأثير الدين، فالاسلام تحديدا ينعكس في شكل قوي جدا على سلوك الانسان الاجتماعي وتكوينه السيكولوجي.

 

* بما أنك تطرّقتَ الى السيكولوجيا، لقد قمتَ بدراسات معمّقة في علم النفس الاجتماعي: ترى هل ساعدتك هذه الدراسات في تكوين شخصياتك ونحتها، علما أنك تؤكد باستمرار أن الروح الانسانية تعصى على علم النفس؟

 

تلك الدراسات لم تساعدني حقا، لكن ثمة عامل مهم في هذا الاطار، هو الاعوام التي أمضيتها في الاهتمام بالامراض العقلية في احد المصحات، حيث اكتشفت كم ان الروح الانسانية متعددة الطبقة وكم يمكن الغوص بعيدا فيها. لقد أفادتني هذه التجربة كثيرا: هي طبعا لم تعلمني كيفية تفسير العلاقات الانسانية، لكنها أثرت على نحو لا واع في طريقة نظري الى الناس والى الانسانية عموما. فأنا عندما انظر، اراقب بفضول، اتخيل، أتـنبأ، أحلل، أكمن، اي انني نادرا ما ارتاح. ولهذا السبب أعاني الأرق، وعلاقتي مع الليل ليست جيدة، إذ أمضيه في التفكير وفي التحاور مع شخصياتي. احرص على الشروع في طقوس النوم باكرا، فأنا اكتب خصوصا في الصباح، واذا كانت ليلتي سيئة لا يمكنني العمل في اليوم التالي. أحرص كذلك على حماية حميميتي وخصوصياتي، فهي المسافة التي تعينني على اختراق حصون الآخرين، أي على الانقضاض عليها في شكل أفضل.

 

* فعلا، فأنتَ توصف دائما بالرجل الخفر، المتحفظ، الغامض، المنسحب. هل تعتقد أن الكاتب يجب أن ينعزل عما حوله، وما رأيك في ظاهرة نجومية الأدباء التي نرصدها اليوم لدى البعض، خصوصا في الغرب، بفضل آليات الاعلان والترويج والتسويق؟

 

هذا اللهاث وراء النجومية امر فظيع من دون شك، والكتابة هي حتما عمل انعزالي، ولكن عندما نُصدر كتابا، يتحتّم علينا أن نرافقه: ألا يرافق الأهل خطوات ابنهم الأولى؟ لا يمكننا أن نختبىء ونقول: "ها هو الكتاب ولد، وعليه أن يشق دربه بنفسه". بعض الذين يختبئون، على غرار ميلان كونديرا مثلا، إنما يخدمهم هذا الإختباء بالذات، كعامل ترويجي. أكرر، لقد أدركنا للأسف زمنا تؤدي فيه وسائل الاعلام دورا رئيسيا، زمن غزت فيه الكتب غير الأدبية رفوف المكتبات بنسبة 80 في المئة: كتب الاسفار، والشهادات، والمذكرات...الخ: إنها كتب تجتاح مساحة المكتبة وتسرق منا القرّاء: قد تقولين لي إن قارئا عاديا يدخل الى مكتبة لن يختار على الارجح كتابا لإيكو او لكونديرا، وستكونين على حق: لكنه كان ربما ليقرأ هذا الكتاب لو لم يكن أمامه كتاب آخر عن الفتاة التي عاشت تجربة الستار اكاديمي أو عن الشاب الذي هزم تماسيح أدغال الأمازون! انه اجتياح اللاأدب واللاكتب لعالمنا. لذلك علينا ان ندعم الكتاب. أن نحميه ونعينه على الصمود. حتى صديقي لو كليزيو، الذي كان مثال الكاتب "المتوحش" والمتوحّد والمنعزل، رضخ الآن وصار يجري مقابلات على الراديو والتلفزيون ويقوم بحفلات توقيع عندما يصدر كتابا جديدا. إنه وضع مؤلم ومرير لكنه الواقع. المهم ان يفعل الكاتب ذلك باحترام، محافظا على كرامته وكرامة أدبه، أي ألا يذهب الى أي مكان، ويلبي فورا أي دعوة. فالأدب مثل الحرية: إنه غير قابل للمفاوضات والتنازلات، وهو، خصوصا، لا يحتمل المساومة.

 

* لقد سبق أن نشرتَ كتابين يحملان طابعا اوتوبيوغرافيا، هما "الكاتب العام" و"رباط الأخوّة". هل تؤمن بنظرية أن كل رواية هي في شكل ما سيرة ذاتية؟

 

طبعا، فالكاتب يتغذى دائما من نفسه. مثلا، كتبتُ أخيرا رسالة الى اوجين دولاكروا أتناول فيها موضوع رحلته الى المغرب عام 1832، التي بعدما عاد منها لم يرسم سوى بلادي طوال ثلاثين عاما تقريبا. وادركت في لحظة ما أني ، إذ كنت أكتب عنه، أكتب عن مغربي أنا من خلال رسومه وحياته. ذلك لأقول إن الكاتب، حتى عندما يؤلف كتاب خيال علمي، لا يسعه أن ينسحب كليا مما يكتب. لا اؤمن بالكتابة المحض موضوعية. إننا ننهب انفسنا وحيواتنا باستمرار. لكننا نخترع أيضا، بالتأكيد، ولحسن الحظ، عالما غير موجود، ونكتب لكي نمحو في شكل ما وجوهنا. فالكاتب لا يمشي قط عاريا، ولا يسلّم نفسه للقرّاء على نحو كامل. فضلا عن اني لا أملك على ما أظن ما يكفي من التعقيدات لكي أكون أنا شخصيات كل رواياتي. تعلمتُ أن افرض مسافة بيني وبين ما أكتب، إذ يجب الا نرهق الكتاب والقارىء بصورتنا. أغرف من الحياة التي تدور من حولي أيضا، ومن الناس الذين أعرفهم وألتقيهم، ولذلك غالبا ما يتملكني الشعور بأني أسرق الآخرين عندما أكتب.

 

* وما المشاعر الأخرى التي تنتابك أثناء الكتابة؟

 

أعيش خصوصا حالا من القلق الهائل، لاني لا أنفك أخاف من ان اخيّب القراء. يتكرر الخوف والتوق نفسيهما مع كل كتاب جديد، فالكتاب الذي نشرناه هو دائما اقل أهمية من ذلك الذي نحلم بكتابته. اتخيل ردود الفعل الممكنة، يجتاحني انعدام الرضى وتتآكلني الشكوك. أخشى الضياع وفقدان صرامتي وتشددي.

 

* وهل يدفعك هذا الخوف من التخييب الى القيام بمساومات؟ الى المراعاة والمجاملة؟

 

ابدا على الاطلاق، بل على العكس من ذلك، إنه خوف يدفعني الى تجاوز نفسي وبذل كل ما اوتيت من طاقة بغية تقديم شيء ذي قيمة. أحيانا أثق بكتابتي وأحيانا لا، ولذلك أتقدّم دائما من الكلمة بتواضع وخشوع. من ناحية أخرى، لقد تقبّـلتُ واقع ان لا يمكن المرء إرضاء الجميع، وان لا مفر من وجود اشخاص لا يحبوننا، لا بل ثمة أيضا اولئك الذين ينتقدوننا عن جهل. لقد عانيت الكثير جرّاء هذا الخبث في حياتي.

 

* أعرف أنك واجهت مشكلات كثيرة مع كتابك "تلك العتمة الباهرة" الذي يروي قصّة أحد السجناء في سجن تازمامارت. فما قصّة هذين الكتاب والجدل؟

 

فعلا، عشتُ تجربة مؤلمة للغاية مع هذا الكتاب على مستويين، اولا من حيث المضمون، لأنه كتاب موجع جدا وقد كتبته وعشته بكل جوارحي، وثانيا على المستوى الشخصي، لأن السجين المعني وشقيقه خدعاني وأوقعاني في فخ بشع جدا. إذ كنتُ قد وقّعتُ مسبقا اتفاقا مع السجين حول القصّة، وأرسلت اليه المخطوطة قبل النشر، فكتب لي رسالة موافقة يصفه فيها بالرائع، ثم وقّع بدوره عقدا رسميا مع دار النشر. لكنه ما أن قبض الشيك، وبعد ما لا يزيد على خمسة عشر يوما على صدور الكتاب، سارع الى عقد مؤتمر صحافي يزعم فيه أنه لم يوافق يوما على إصداري هذا الكتاب. كان يريد على ما يبدو ان يبرىء نفسه إزاء السلطات المغربية. وهنا استولت الصحافة طبعا على القضية ووقفت ضدي، وحولتني وحشا استغلاليا، رغم كل ما أبرزته من وثائق: ففرصة الإنقضاض عليّ كانت أجمل من أن تضيع هباء. ذلك أحد أمثلة الخيانة. كل يوم نتعلم أشياء جديدة عن النفس الانسانية وعن قدرة الانسان على الطعن. ولقد رددتُ في الواقع على تلك المسألة من خلال قصّتين وردتا في مجموعتي القصصية الأخيرة "قصص حب سحرية" (سوي، 2003)، هما "حمّام"، و"المغتصب"، اتناول فيهما موضوع الغدر والخيانة.

 

* ثمة قصّة ايضا في المجموعة نفسها التي ذكرتها، مستوحاة من 11 أيلول. أنت الشرقي المقيم في الغرب، كيف ترصد الانقسام المزعوم بين هذين العالمين في حياتك اليومية، وهل تؤيّد ما يُحكى عن أدب ما قبل 11 أيلول وأدب ما بعده؟

 

لا ، هذه تسمية خاطئة ولن تصحّ يوما. أما في ما يتعلّق بـ 11 ايلول في ذاته، فهو كارثة الحقت الضرر بالعالم العربي اكثر مما أذت الغرب. لقد هشّمتنا وهشّمت صورتنا. تلك الكارثة هي التي أفسحت أمام الاميركيين فرصة اجتياح العراق. وفي رأيي أن 11 ايلول خدم مصالح الأميركيين اكثر من اللازم. لأجل ذلك، يؤلمني اجتياح اللاعقلاني للعالم العربي، الذي لم يزل يرفض الاعتماد على الوقائع والحقائق والمنطق. انه امر متعب للغاية. رغم هذا، من الضروري أن نميز بين أميركا البنتاغون، التي هي فظاعة مطلقة، وأميركا الثقافة التي تعطينا أدبا وموسيقى وفنونا وسينما- لا أعني الهوليودية طبعا- غنية ومثيرة جدا للاهتمام. لا يمكن وضع الجميع في المرتبة نفسها: بوش مجرم وابله، ولكن هناك فنانون ومثقفون اميركيون رائعون يعارضون سياسته بشجاعة. لذلك يجب عدم المزج بين جنسية الانسان أو عرقه أو دينه وبين سياسة بلاده. مثلا، أنا اليوم أفصل في شكل واضح وحاسم بين السياسة الاسرائيلية التي أدينها وأستنكرها واعارضها الى اقصى الحدود ومن دون اي لبس، وبين أن يكون المرء يهوديا، الذي يعادل بالنسبة إلي واقع أن يكون مسلما أو مسيحيا أو بوذيا الى آخره. لا استطيع ان احكم على إنسان بناء على انتمائه الديني او العرقي. وهذا الخلط أمر شائع، خصوصا في عالمنا العربي العزيز.

 

* "عالمنا العربي العزيز" هذا، لقد كتبتَ عنه الكثير، ومن أجرأ ما كتبت ربما مقالك الأخير في النوفل اوبسرفاتور في عنوان "السجن العربي"، حيث تساءلت: "ما العوامل المشتركة بين هؤلاء الملايين من العرب؟ أتراها ال أنظمة سياسية ال مشكوك في شرعيتها، أم مسلسل ال إخفاقات ال داخلية، أو اله زائم ال متعاقبة، أو نزيف الأدمغة، أ و تلك ال لغة ال كلاسيكية التي يتكلمها المثقفون فحسب، وهم غالبا من عزلون عن الشعب ؟". ما مآخذكَ على هذا العالم؟

 

هل لديكِ حقا كل ما تتطلبه إجابة كهذه من وقت؟ في الحقيقة، بات من الضروري ان يجري العرب بدورهم فحصا لضمائرهم. إننا نعاني من نقص مهلك وفتّاك في الحرية والخيال، نغذّي الخبث والحقد، لا نقول ما نفكر فيه، وحتى مخيّلتنا هي مخيّلة تحديدية وقمعية، ولذلك نعيش حالا من الانحطاط الرهيب، انحطاط هو عبئنا الأكبر. مثلما سبق أن كتبت، سوف يصبح لل عالم العربي وجود فعلي عندما تقوم وحدته، ليس على اللاعقلانية الدينية أو الميول الظلامية، ولا على الخطابات الرنانة و اللازمات والشعارات المملة كما في أغنيات أم كلثوم الجميلة؛ وإنما على مشروع اقتصادي جد ي ، وعملة موحدة، و إلغاء الحدود والتأشيرات، وعلى حرية ممارسة الديمقراطية بكل ما لها وما عليها. ينبغي علينا أن نتواضع و أن نبدأ بالإعتراف بانقساماتنا وخياناتنا و ان عد ا م كفا ي تنا. لننظف بيوتنا قبل أن نتهم الآخرين، و ل نحاول أن نستحق من جديد إرث أسلافنا، اولئك الذين حملوا اللغة والثقافة العربيتين إلى أوج الحضارات.

 

* وما موقفك من قضية الحجاب التي أثيرت أخيرا في فرنسا، وفي قرار شيراك منع ارتدائه في المدارس؟

 

أنا رجل علماني، اذا أنا ضد كل مظاهر اجتياح الدين للمساحة العامة. أؤيد منع ارتداء الحجاب في المدارس او في أحواض السباحة، أؤيد رفض مبدأ أن تكون معالجة النساء حكرا على الطبيبات في المستشفيات العامة، أؤيد الحؤول دون فرض البعض رؤيتهم الخاصة للحياة على الآخرين. هذه ظلامية تريد ان تنخر مجتمعا علمانيا ناضل الكثير ودفع أثمانا باهظة لكي يحقق علمانيته هذه. إنها نوع من الرقابة غير المقبولة. كأنك توشحين جزءا من شاشة السينما بالسواد لأنك ترفضين بعض مشاهد الفيلم، فتفرضين على سواك أيضا هذه العتمة رغما عنهم.

 

* في الحديث عن السينما، نعرف أنك مفتون بهذا الفن، فأي إسهام قدّمه هذا الإفتتنان بالصورة لكتابتك؟

 

أعطتني السينما الكثير الكثير. لقد تعلّمتُ أن أروي قصصي من خلال مشاهدتي الأفلام. كنتُ محظوظا بمشاهدة أفلام عظيمة عندما كنتُ فتيا، وكان هذا الفنّ شغفي الأكبر منذ طفولتي. كنّا نرتادها يوميا شقيقي وأنا بعد انتهاء الدروس، من الخامسة الى السابعة مساء، إذ أقنعنـا والدينا بأنها جزء من الواجبات المدرسية. فريتز لانغ، هاورد هوكس، اورسون ويلز، الخ... هؤلاء المخرجون العظماء علموني كيف أجعل قصصي متماسكة، كيف أفرض شخصياتي وأحرّكها. لا بل اني أردت في مرحلة ما ان اقوم بدراسات في السينما، أول وصولي الى باريس، ولا أذكر في المقابل أن كان عندي طموح بأن أصبح كاتبا. أعشق في السينما الشعر ولعبة التلميح وفنّ استثمار الوقت...

 

* وأنت، ألا تشعر بمرور الوقت؟

 

افكّر فيه كثيرا. يكفي أن انظر في المرآة وأرى عواقب تساقط شعري. لم يكن تقبّل ذلك بالأمر السهل (يضحك). لكني أشعر في الوقت نفسه بأن أبوّتي تحميني من مرور الوقت، وبأن وجود أبنائي يساعدني في الاستسلام لهذا الوحش القاهر، أو على الأصحّ في التحايل عليه. أحاول كذلك الإعتناء بنفسي. لستُ من هواة الرياضة لكني انتبه الى ما آكله واحرص على الا يزيد وزني. كما انني مارست في مرحلة من المراحل رياضة اليوغا، رغم أنها كانت نوعا من اليوغا الفكرية والتأملية أكثر منها جسدية. لذلك، إذا كان لدي من خوف حقيقي على مستوى مرور الوقت، فهو من دون شك الخوف من المرض ومن الانهيار الجسدي والعقلي، أما الشيخوخة في ذاتها فلا أهابها: شباب أولادي يدرأ خطرها عنّي، مما يشفع الى حدّ بعيد، أعترف، بمساوىء مؤسسة الزواج...

 

* أجل، أعلم أن لديك رأيا "شجاعا" في هذه المؤسسة...

 

لنعترف بأن الزواج ليس أمرا طبيعيا، وإن كانت بعض صيغه ناجحة طبعا. نتزوج في الواقع لكي نؤطر أنفسنا داخل المجتمع. إنه محض رضوخ للقوانين. من النادر ان يكون الشريكان متكافئين، لذلك تبرز في الزواج ضرورة من اثنتين: إما القيام بمساومات، أو إتقان لعبة السيطرة. والمرأة هي التي تسيطر غالبا، لكنها تمنح الرجل وهم أنّه هو المسيطر. ثمة حاجة الى الكثير من الذكاء بغية قبول الآخر كما هو. الحب بين إنسانين أمر استثنائي الى حد أنه من غير المقدّر له أن يُحصر في زمان ومكان وشروط وقيود، وذلك ما يفعله الزواج بالضبط. لكن هذا الأخير مثل الديموقراطية: لم يتوصل الناس بعد الى صيغة افضل لإنجاب الاطفال وتربيتهم!

 

* الطاهر بن جلون، لقد حقّقتَ الكثير ونلتَ شهرة واسعة وتُرجمتَ الى لغات لا تُعدّ وحزتَ جوائز لا تُحصى، ويرد اسمك بين المرشحين المحتملين لجائزة نوبل. إلام تصبو في هذه المرحلة من حياتك؟

 

إلام أصبو؟ (يبتسم). حسناً، الى الهدوء، الى الصفاء، على ما أعتقد. الى السلام الداخلي. وسيكون من الرائع أيضا أن يتاح لي عيش الشغف من جديد.

 

* الشغف والسلام الداخلي؟ توقان لا يجتمعان على الاطلاق. أرى أن عليك ان تختار بينهما...

 

سأختار الشغف إذن. (صمت). الشغف بالتأكيد

----------

* جمانة حداد: شاعرة وكاتبة لبنانبة. المصدر: www.joumanahaddad.com

 

 

12/6/2010