مداولة :
أ. من يمتطي الثورات العربية ؟
بقلم: محمد الأسعد, الكويت
تبدو الثورات العربية الراهنة خيولا حرة جامحة، لا يلجمها لجام ولا يمتطيها أحد. هي كما قيل عدة مرات ثورات عفوية، أطلقتها سنوات طويلة من المعاناة الاجتماعية والسياسية، وساعدت على حشدها أدوات إعلامية جديدة، فاختارت التظاهر بحشود هائلة ستكون عصية على قوى القمع، سواء كانت أمناً مركزيا أو شرطة سرية أو حتى جيشاً مزوداً بالطائرات والدبابات.
حتى الآن لا أحد يستطيع نفي صفة الحركة الحرة عن هذه الخيول، فقد تجاوزت حذر الحذرين ونصائح المشفقين ومبادرات الانتهازيين لامتطائها. ولكن لا أحد يستطيع تجاهل أن الخيول الحرة بدأت تتعرض للترويض، ولأكثر من محاولة لامتطائها. نحن لا نعيش خارج الجغرافية العربية، أي نحن لا نعيش بعيداً عن القاعدة الغربية المتقدمة المسماة "إسرائيل"، ولا عن شبكة السيطرة الاستعمارية على موارد وممرات الطاقة. هذه الثورات باختصار خيول تحررت، ولكن مما تحررت؟ وفي سبيل ماذا؟ وإلى أين تسعى؟
هذه الأسئلة تتردد أجوبتها هنا وهناك، فهي تتحرر من أنظمة قمعية تابعة قامت واستمرت محكومة بوظيفة لا تحيد عنها في خدمة الرأسمالية الغربية ووكلائها العرب. وهي تتحرر من أجل تحطيم قيود التبعية وبناء استقلال حقيقي لأمة تأخرت تنميتها وتأخر تقدمها في عالم اليوم. وهي تتحرر من أجل إعادة اللحمة إلى اللغة الواحدة والأرض الواحدة والمجتمعات الواحدة المهددة بالتفتيت والانقراض إذا لم تتدارك أمورها وتأخذ مصيرها بيدها.
من أجل كل هذا، لن تظل خيول الثورات حرة جامحة كما بدأت؛ سيكون لها فرسانها، أي القوى الاجتماعية القادرة على قيادتها إلى بغيتها، وتحقيق مسار يجنبها مهالك الراكضين الآن إلى امتطائها وبأيديهم لجام سماسرة الغرب وأموالهم، ومفخخات المخابرات المعهودة، وتهديدات البنك الدولي ورجال مخابراته المعروفين باسم المخربين الاقتصاديين. وسيكون لها فرسانها المعرضين للاغتيال أو الإغراء أيضاً.
*
هذه معركة تدور على موضوع واحد لا غير: من يستطيع امتطاء الثورات؟ من لديه الإمكانية؟ من الذي يتقدم الآن مدعوما بوسائل الترويض والسيطرة؟ من لديه المصلحة الأكيدة في أن لا تجد هذه الخيول فرسانها أو يجدها فرسانها؟
منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى أواسط القرن العشرين الماضي، كانت خيول الثورات العربية تنطلق بكل جموحها، ولكن كان لها فرسانها، ولم تكن كما هو حالها اليوم. كان هناك عرابي في مصر، والخطابي في الريف المغربي، والمختار في ليبيا، وعبد القادر في الجزائر و القسام في فلسطين والأطرش في سوريا.. إلخ. كان للخيول فرسانها، ولهذا كان من المحال أن تستطيع قوة امتطاءها أو ترويضها حتى. وكان السبيل الوحيد أمام قوى الغرب المحتل أن تضع الشراك المهلكة لهذه الخيول، أن تدفعها إلى الهوى السحيقة والآبار، أن تسقط فرسانها، بمدافعها ومناوراتها ومكائدها، أن تدفع إلى الساحة بالانقلابات العسكرية لترتد حركات الشعوب إلى مستنقعات البطالة والعطالة.
الحال يختلف اليوم، فهذه الخيول الجامحة لم تعد ثورات مجموعات مسلحة أو انقلابات جماعات عسكرية سرعان ما تتحول إلى حكومات مستبدة طيعة، بل ثورات شعوب بأعداد غفيرة، أشبه بأمواج من خيول برّية لا يعرف أحد كيف تتحرك وفي أي اتجاه. وأي مواجهة تقليدية لها ستكتب الصفحة الأخيرة في كتاب الغزوات الاستعمارية، بدءا من صفحة غزوات القرن التاسع عشر ووصولا إلى إقامة نظم التبعية والقواعد العسكرية. هذا هو ما يجعل الغرب الاستعماري يهرع إلى أدوات الترويض وامتطاء خيول الثورات، لا محاولة إسقاطها المحال بجنوده ومدافعه.
*
وسائل الترويض والامتطاء بدأت منذ اللحظات الأولى. صحيح أن بعض هذه القوى تردّدَ وفكرَ وارتبكَ، بسبب جدة الظاهرة، ولكن الأمر لم يطل طويلا. فكان الاكتشاف الأول؛ هذه ثورات من المحال إطلاق الرصاص عليها، لأنها بلا فرسان ظاهرين أولا، وثانيا لأنها أمواج لا ينفع معها الرصاص، هذا إن لم يزدها علواً. وجاء الاكتشاف الثاني؛ ما تزال باليد أدوات أكثر من طغمة مالية هنا وهناك، ما زالت هناك نظم تخشى أن تغرقها هذه الأمواج، ومستعدة لبذل مليارات الدولارات وعقد أكثر الصفقات دناءة مع القاعدة الغربية (إسرائيل) في سبيل النجاة. وجاء الاكتشاف الثالث؛ ما زال بالإمكان تحويل صناديق الاقتراع إلى منفذ لسماسرة الغرب في هذه البلدان، فالديموقراطية ما تزال أسيرة البنية الاقتصادية التابعة ذاتها التي صنعها سماسرة الغرب.
ثم جاء الاكتشاف الرابع؛ تطويق هذه الخيول ومنع تشابك أمواجها واكتسابها المناعة، مناعة العدد والعدة والاندفاع، والأداة هي الهجوم على خيول المقاومة المتأهبة التي صمدت طيلة العقود الماضية بوسائل تنتحل وسائل هذه الثورات نفسها.
وأخيراً هناك الكمائن المتنقلة؛ أن يكمن "القادة"، الذين دفعت بهم الأجهزة الغربية، وصنّعتهم، لهذه الخيول ويقفزوا على صهواتها. وهؤلاء "القادة" بدأت تهيئتهم في خضم انطلاق الثورات، فظهروا على شكل "حكماء" و"أحزاب" و"شخصيات" تتجول في الميادين والشاشات.
السؤال الآن هو: أين هم فرسان هذه الخيول المنتظرة من هذه الكمائن والهجمات ومليارات الدولارات؟
أعتقد أنهم موجودون، مثلما كان ربيع الثورات هذا موجودا في رحم الشتاء السابق. ومثلما لم يكن هذا الربيع مفاجئا كما أراد بعض أصحاب الأقاويل إيهامنا، كذلك ليس مفاجئا ظهور فرسان هذه الخيول الجامحة. لقد هيأت مقاومة العقود الطويلة الماضية، وهيأت سجون الطغمة المالية المستبدة ومذابحها، فرسانا حقيقيين، ليسوا هم أصحاب الكمائن الذين يلمعون الآن على الشاشات، بل أولئك الذين عملوا منذ سنين طويلة من أجل أن تنطلق خيول الثورات الجامحة.
*
أول مهمات هؤلاء المقاومين هي التمييز جيدا بين الخيول الأصيلة، والخيول العجفاء التي سيطلقها الغرب، من أجل أن تختلط الأمور، في ساحات عواصمنا العربية، أو سيقودها ليدفع بها من وراء المرتفعات وفي أعماق الوديان وفوق صهواتها فرسانه المسلحين بالمتفجرات، أو يظهرها على شاشاته الفضائية التي زرعها وتكلمت العربية، واجتذبت بخبث عواطف الناس وعيونهم حين عزفت لسنوات طويلة على مكامن جراحهم.
وثاني المهمات هي المعرفة الأكيدة بأن تحرير المجتمع لن يكون كاملا إلا بتحريره من الطغمة المالية المستعدة في كمائنها للتسلق مجدداً، ودفع المليارات لخوزقة ما نسميها الديموقراطية. وإعادة ممثليها إلى سدة الحكم. وثالث المهمات هي التشديد على أن فكرة المستبد المطلق، طيبا أو خبيثا، التي تحكمت بوطننا طيلة قرون عديدة، لم تعد ضمانا لأي شيء. إنها تأبيد للعبودية لغرب رأسمالي جعل استعباد الشعوب عقيدة راسخة، أو تأبيد للقابلية للاستعمار في مقبل الأيام وفي كل يوم. وإذا لم تولد دساتير وقوانين تجعل الحاكم والرئيس موظفاً يمكن الاستغناء عنه من قبل سلطة أعلى منه، سلطة برلمان شعبي حر، فسيواصل أصحاب الكمائن نصب شراكهم، وتلميع ربطات أعناقهم. ورابع هذه المهمات، وأكثرها أهمية، الدفع بفكرة الموجة الواحدة التي تحولت إليها خيول الثورة الجامحة لتكون موجة أعلى وأوسع على امتداد مساحة الوطن العربي.
ليكن ثابتا من أغلى وأهم الثوابت لدى فرسان الخيول الحرة، على اختلاف جنسياتهم، إن هذا الوطن يسقط إذا تفتت وينجو وينهض إذا تجمع. هذا ثابت تاريخي لا مجال فيه لمكابرة أمراء الزواريب والحارات الضيقة وبرك المياه الضحلة.
ب. نعم, لا يوجد عالم عربي
بقلم: سـلمان مصالحة*
أيلول الأسود:
لا أدري لماذا أتذكّر الآن ما جرى في أيلول الذي سُمّي بالأسود سنة 1970. في ذلك الأيلول وعلى أثر الأحداث الدموية التي حصلت في المملكة الأردنية الهاشمية، وتحت ضغط الجيش الأردني قام بعض المسلّحين الفلسطينيين بعبور النّهر وتسليم أنفسهم بالذّات للجيش الإسرائيلي. نعم، لقد فرّوا من بلد عربيّ وفضّلوا تسليم أنفسهم لجيش الـ“عدو“.
أتذكّر هذه الأحداث الآن على ضوء ما يجري في سورية. فها هم العرب ينتكبون مرّة أخرى بأنظمتهم المافيوزية، ولكنّ النكبة هذه المرّة يصنعها العرب بأنفسهم ولأنفسهم. فها هم المواطنون السوريّون يفرّون باحثين عن ملجأ في تركيا خشية بطش هذا النّظام البعثي المافيوزي. نعم، إنّ المواطنين السوريين يفرّون من بلد هو بلدهم طالما ادّعى بأنه حامل لواء العروبة، وذلك بحثًا عن ملجأ في تركيا. وهي التي طالما وسمها مراهقو العروبة بأنّها أساس بلاء العرب وتخلّفهم، بسبب سيطرة العثمانيين على العرب طوال قرون.
خلاف على أسباب التخلّف:
لقد ذكرت مرّة لصديق تركيّ هذه الدعوى القوموية العربية والتي تنسب التخلّف العربي المزمن إلى تلك القرون من الحكم العثماني للمنطقة العربيّة. غير أنّ الصديق التركي انفجر ضاحكًا حتّى كاد يستلقي على قفاه. ولمّا حاولت الاستفسار عن سبب ضحكه هذا، أجاب: هنالك دعوى مشابهة في تركيا، غير أنّها معكوسة تمامًا. القومويون الأتراك يقولون إنّ سبب بقاء تركيا متخلّفة كلّ هذا الزّمان هو بسبب حكمهم العرب.
وفي هذا دلالة على أنّ القومويّين لا يختلفون عن بعضهم البعض. القومويّ يعلّق أسباب تخلّفه على الآخرين. إنّه لا يستطيع، أو أنّه لا يرغب في النظر إلى نفسه بالمرآة. إنّه يبحث عن أسهل الطرق بغية تجنّب مساءلة الذات، والوقوف على جذور وأسباب الفشل الذّاتي. لهذا السّبب أيضًا، فإنّنا نرى أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض قبولاً واستيعابًا لنظريّات المؤامرة على اختلافها وغرائبيّتها.
إنّه اليأس، يا خوري!
في مقالة بعنوان ”إنّه الأمل“ نشرها في ”القدس العربي“ في الأسبوع الفائت يصبّ الكاتب اللبناني إلياس خوري، ”المُصاب بالأسى“ بتعبيره، دلوًا من اللّوم على رأس الكاتب المغربي الطاهر بن جلون. ومناسبة هذا الدلو من اللائمة هو ما ورد من تفوّهات على لسان الطاهر بن جلون بشأن أحوال ”العالم العربي“ في لقاء حواري مع الروائي اللبناني شريف مجدلاني في بيروت. لقد ذكر أنّ بن جلون نفى وجود ”عالم عربي“ وهو ما حدا بإلياس خوري إلى التساؤل: ”ما معنى أن يقول بن جلون أن العالم العربي غير موجود؟“، ثم يُضيف: ”هل يكفي ان تكون هناك اختلافات في اللهجات والأديان كي يصير العالم العربي غير موجود؟“. ثمّ يذكر خوري من بين مسبّبات الأسى الذي دلقه عليه بن جلون في هذا اللقاء: ”لكن ما يثير الأسى هو ان يدافع المثقف عن نظام بلاده وعن مليكه، في بيروت، وعلى مبعدة مئة كيلومتر فقط من الشام، حيث تسيل الدماء.“
ولهذا السّبب يطلب الكاتب اللبناني من الكاتب المغربي أن يكون حذرًا وأكثر دقّة قائلاً: ”كان على صاحبنا المغربي أن يكون أكثر دقة. فالحوار العلني في الجامعة ليس شبيهًا بحوارات المقاهي، بل يفترض شيئًا من المسؤولية الأدبية.“
هكذا، إذن. إنّه يطلب من الكاتب المغربي أن لا يقول ما يجيش بصدره من أفكار في منصّة عامّة، بل يطلب منه أن يكون بوقًا لـ“فكرة مُتوَهَّمة“ اسمها الـ“عروبة“ أو ”العالم العربي“، وهي الفكرة التي طالما جلبت وبالاً على أصحابها. والغريب في الأمر أنّ هذه الدّعوى تأتي من كاتب لبناني، وهو على علم بحيثيّات الوضع اللبناني. ففي بلد صغير مثل لبنان، لم يستطع هذا البلد ولا زعاماته أو أهله أن يبنوا هويّة واحدة جامعة لأبنائه تتخطّى هذه الطوائف المتصارعة طوال تاريخه.
وعودًا على بدء:
نعم، لا يوجد عالم عربي. لا يوجد تكافل عربي بما تعنيه هذه الكلمة. فلو كان هنالك شيء اسمه ”عالم عربي“ لاستنفر هذا العالم نفسه لوقف المجازر التي يرتكبها البعث المافيوزي بحقّ المواطنين السوريين. يكفي المرء أن ينظر إلى صور التمثيل بجثث الأطفال السوريّين لكي يقف على طبيعة هذا النّوع من الأنظمة.
ولو كان هنالك شيء اسمه ”عروبة“ لانطلقت المظاهرات في العواصم العربية ضدّ هذا النّظام المجرم وضدّ كلّ ما يمثّله من استبداد طوال عقود من الزمان.
لكنّ الحقيقة هي أنّ بيوت العرب كلّها وكلّهم مصنوعة من زجاج. هذه هي الحقيقة المرّة التي يجب أن يواجهها كلّ عربيّ. وما لم يبدأ العربيّ بالنّظر إلى نفسه في المرآة فلن يصل إلى سواء السّبيل.
والعقل ولي التوفيق!
------------
* المصدر: http://salmaghari.blogspot.com
|