מאמרים
היסטוריה, זיכרונות
תרבות
Français English عربى  Etc.

حملة تواقيع لمكافحة ظاهرة قتل النساء

أطلقت إذاعة "الشمس" (22.7.2011) حملة لجمع 100.000 توقيع على عريضة ضد ظاهرة قتل النساء في المجتمع العربي, وستستمر هذه الحملة لمدة شهر.

في هذه المناسبة ننشر حوار مع البروفيسور محمد حاج يحيى / حاوره: مهند مصطفى*

 

البروفيسور محمد حاج يحيى:

العنف في المجتمع الفلسطيني ظاهرة هدّامة

وواسعة الانتشار لها سياقها السياسي والمجتمعي

ولسنا جاهزين لمواجهتها، لكن الويل لنا إذا تراجعنا وانحنينا

 

 

من هو محمد حاج يحيى؟ حدثنا عن نفسك وعن مجالات اهتمامك الأكاديمية والبحثية؟

أنا من مواليد الطيبة عام 1957، أنهيت دراستي للمرحلتين الابتدائية والثانوية في مدارسها، حصلت على شهادة البكالريوس في عام 1980 وعلى شهادة الماجستير عام 1984، وكلتاهما في موضوع الخدمة الاجتماعية من الجامعة العبرية في القدس، وحصلت على شهادة الدكتوراه عام 1991 في الخدمة الاجتماعية والدراسات الأسرية من جامعة مينسوتا في الولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمحاضر للخدمة الاجتماعية في جامعة بيت لحم حتى عام 1994، وضمن وظيفتي هنالك عملت على استحداث وبناء تخصص الخدمة الاجتماعية. أثناء عملي كمحاضر متفرّغ في جامعة بيت لحم عملت أيضا محاضرا زائرا، بوظيفة جزئية، في مدرستي الخدمة الاجتماعية في جامعة تل أبيب وفي الجامعة العبرية حتى عام 1994. وفي صيف عام 1994 أنهيت عملي في جامعة بيت لحم والتحقت بالعمل كمحاضر متفرّغ في مدرسة الخدمة الاجتماعية في الجامعة العبرية في القدس، حيث حصلت على درجة محاضر كبير عام 2000 وعلى درجة بروفيسور عام 2004. وأقوم ضمن عملي في الجامعة العبرية بتدريس مساقات علمية في مجال تخصصي البحثي ألا وهو العنف في الأسرة. كما أدرّس مساقات في مناهج البحث العلمي وغيرها.

كما ذكرت فأنا متخصص في دراسة وعلاج العنف في الأسرة. وعلى وجه التحديد العنف ضد النساء، والأطفال الذين يشاهدون العنف ضد أمهاتهم، والإساءة للأطفال وإهمالهم. وأهتم أيضًا بدراسة الآثار النفسية لمشاهدة العنف الجماهيري ومشاهدة العنف السياسي والعسكري. أجريت الكثير من الدراسات عن حجم مشكلة العنف ضد النساء وبعض العوامل المؤدية لها وآثارها النفسية على المرأة ضحية العنف والإساءة وعلى أطفالها الذين يشاهدون معاناتها من تلك التجربة. أجريت مثل هذه الدراسات في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما أجريت الكثير من الدراسات عن مفاهيم المجتمع نحو العنف ضد المرأة، حيث أجريت هذه الدراسات في إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي الأردن، ودراسات مشابهة لها أجريت عن طلبة الخدمة الاجتماعية والتمريض والطب في الجامعات الفلسطينية، وفي بعض الجامعات الأردنية، وفي إحدى الجامعات في سريلانكا، وفي إحدى الجامعات في تركيا وفي بعض الجامعات التايوانية.

أحد أهم المركبات في هويتي الأكاديمية والبحثية والمهنية هو اهتمامي بدراسة ومكافحة تعرض الأطفال والأحداث للعنف الجماهيري والعنف السياسي والعسكري والآثار النفسية والسلوكية لمثل هذه التجارب عليهم. وانسجامًا مع هذا الاهتمام فقد أجريت عدة دراسات عن هذه المواضيع وانتهيت قبل عدة أشهر من إجراء دراسة واسعة عن الآثار النفسية والسلوكية للعنف السياسي والعسكري على الأطفال والأحداث ووالديهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وسأقوم في القريب بنشرها.

 من اهتماماتي الأكاديمية والبحثية والمهنية أيضا علاقة الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي بمشكلة العنف في الأسرة، وعلى وجه التحديد أهتم بدراسة وفهم كيف يؤثر ذلك الواقع على الأساليب التي تتبعها المرأة من أجل مواجهة العنف والإساءة الذين تتعرض لهما.

أبذل قصارى جهدي من أجل نشر دراساتي في مجلات عالمية محكمة، إلى جانب عرضها في محافل أكاديمية ومهنية محلية وعالمية، مثل المؤتمرات العلمية وورشات العمل المهنية والمحاضرات ذات الطابع الجماهيري والمهني. حيث لا قيمة لمثل هذه الدراسات إن لم تكن في متناول يد الباحثين والمهنيين وكافة قطاعات المجتمع المهتمة بمثل هذه المشاكل المؤلمة. الواجبات الأكاديمية والبحثية، وأحيانا حتى واجباتي الشخصية والعائلية والاجتماعية، لا تثنيني عن قيامي بواجباتي التطوعية في الكثير من المجالات، مثل عضويتي في الهيئات الإدارية لأطر اجتماعية وجمعيات أو مراكز حقوق إنسان وعضويتي في لجان أو مجالس أكاديمية في مؤسسات أو كليات أكاديمية وتطوّعي بإلقاء محاضرات عن مجالات اهتماماتي ودراساتي وتدريب كوادر مهنية أو شبه مهنية تعمل في مجال مكافحة وعلاج العنف في الأسرة بأشكاله المختلفة. وغيرها من النشاطات التطوّعية في المجالات الأكاديمية والمهنية والجماهيرية، التي أجدني من خلالها أحقق جزءا ولو يسيرا من الواجب الأخلاقي والإنساني والوطني الملقى على عاتقي.

 

كيف تقيّم الإنتاج البحثي من حيث الكم والكيف حول ظاهرة العنف في المجتمع العربي في إسرائيل؟

من الصعب جدا الخوض في تقييم الإنتاج البحثي كما وكيفا حول مشكلة العنف بإشكاله المختلفة، إن كان في الأسرة أو في المدرسة أو في الحي أو غير ذلك في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل. ولاعتبارات منهجية شائكة ولاعتبارات أخلاقية أيضا، أفضل عدم الخوض في الجانب الكيفي ومستوى جودة الدراسات والإنتاج البحثي المتوفرة عن هذه المشكلة. ولكن من اجل أن نكون صادقين ومنصفين في تقييمنا للكم المتوفر من الدراسات، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الكثير من العوامل، من أهمها شح الموارد المالية لتمويل إجراء مثل هذه الدراسات. كلنا نعلم أن إجراء أي دراسة، إن كان عن مشاكل العنف أو غيرها، تكلف أموالا باهظة، وان اختلفت التكاليف باختلاف منهجية وإجراءات الدراسة وحجم العيّنة وعدد مساعدي البحث الذين يعملون مع الباحث، إلى جانب تكاليف مهنية وفنية ليست ببسيطة.

كما وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ معظم المؤسسات العاملة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، الحكومية منها وغير الحكومية، تستثمر مواردها المالية وكوادرها المهنية، وبحق، من أجل علاج ومكافحة هذه المشكلة وليس في إجراء دراسات بحثية عن المشكلة، مع اننا نتوقع من هذه المؤسسات أن تزوّدنا ببيانات عن تعداد ضحايا العنف والمعتدين الذين يتوجهون لتلقي خدماتها، وعن صفاتهم الديموغرافية والنفسية والاجتماعية، وعن الآليات والمناهج المهنية التي تتبعها في تقديم خدماتها للضحايا وللمعتدين، وعن مدى نجاحها في توفير الحماية للضحايا والعلاج والملاحقة القانونية للمعتدين، وعن ماهية الصعاب الاقتصادية والمهنية والاجتماعية والثقافية وغيرها التي تواجهها في سبيل تقديم خدماتها لضحايا العنف وللمعتدين وعن غيرها من البيانات التي نحن في أمسّ الحاجة لها لتساعدنا في فهم مظاهر وجوانب مختلفة لمشكلة العنف، إن كان في الأسرة أو المدرسة أو المجتمع. إلا انه يترتب علينا أن نتفهّم العوامل التي تعيق تلك المؤسسات في محاولتها للقيام بأي دراسات عن مشكلة العنف بأشكاله المختلفة، وتفضيلها استثمار طاقاتها ومواردها وإمكانياتها المختلفة في علاج المشكلة، إن كان عبر دعم وحماية الضحية وعلاج وملاحقة المعتدي أو في التثقيف المجتمعي عن المشكلة، أو غير ذلك من الخدمات والنشاطات.

وبالتالي نجد أنّ الوحيدين الذين يقومون بإجراء ونشر الدراسات عن مشكلة العنف في المجتمع الفلسطيني هم إما الأكاديميين الفلسطينيين في الكليات والجامعات الإسرائيلية، أو في مراكز البحث العلمي، وعددهم قليل، أو دوائر البحث العلمي في الوزارات الإسرائيلية والتي لها أجندتها الخاصة من وراء توفير البيانات عن هذه المشكلة في المجتمع الفلسطيني، والتي لا تنسجم بالضرورة مع مصلحة ورؤية المجتمع الفلسطيني عن مشاكله أو لا تُنشر بالضرورة من أجل الضغط على المؤسسة الإسرائيلية لتقوم بدورها الحقيقي في مكافحة هذه المشكلة عبر إقامة المؤسسات وتوفير الكوادر المهنية المتخصصة اللازمة لمكافحة وعلاج هذه المشكلة. وبالتالي باعتقادي المتواضع، نجد أن الكم المتوفر من الدراسات التي أجريت وتم نشرها من قبل أكاديميين وأكاديميات فلسطينيين في الكليات والجامعات الإسرائيلية عن مشكلة العنف

في مجتمعنا، إن كانت عن العنف في الأسرة أو العنف في المدرسة أو العنف في المجتمع، كثيرة نسبيا، آخذين بعين الاعتبار العدد القليل جدا من الفلسطينيين المتخصصين في دراسة وعلاج مشكلة العنف بأشكالها المختلفة العاملين في معاهد التعليم العالي الإسرائيلية.

لا اقصد من حديثي هذا أننا وصلنا إلى الاكتفاء الذاتي من حيث كمية الدراسات التي أجريت عن مشكلة العنف في المجتمع الفلسطيني، حيث أننا باعتقادي أبعد ما نكون من الاكتفاء الذاتي من هذه الدراسات، ولكن قصدت انه رغم العدد القليل للأكاديميين الفلسطينيين العاملين في معاهد التعليم العالي الإسرائيلية، من جهة، وعدم قدرة المؤسسات العلمية في إجراء الدراسات عن هذه المشكلة من جهة ثانية، فإن الكم المتوفر لدينا من دراسات ووثائق علمية عن هذه المشكلة يعتبر لا بأس به.


هل ساعدت هذه الدراسات على فهم  أعمق لمختلف أشكال وأسباب العنف في المجتمع الفلسطيني؟

قد تكون إجابتي على هذا السؤال ايجابية بعض الشيء، ولكن لنكن صادقين مع أنفسنا، نحن بعيدون جدا من الهدف المنشود عبر هذه الدراسات، وبالأخص تنقصنا دراسات تطبيقية عن السبل والمناهج الأمثل لعلاج مشاكل العنف المختلفة في مجتمعنا، بما يتماشى مع مصلحة الضحية من جهة، وعلاج المعتدي وملاحقته قانونيا إذا اقتضى الأمر هذا من جهة أخرى، دون خلق نفور أو حساسيات أو امتعاض ثقافي أو اجتماعي أو سياسي أو ديني لا يعود بالمنفعة على ضحايا العنف في مجتمعنا.

لا شك أن الطريق الأكاديمي والمهني أمامنا طويل لتحقيق ذلك الهدف ولكن طريقنا في النضال أمام المؤسسة الإسرائيلية لتقوم بدورها في توفير الكوادر المهنية والموارد البشرية المتخصصة وإقامة المؤسسات اللازمة لمكافحة مشكلة العنف في المجتمع الفلسطيني هو أيضا طويل وشائك، كما هو الحال في نضالنا لانتزاع حقوقنا ولإجبار المؤسسة الإسرائيلية على القيام بدورها في معالجة باقي المشاكل التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني، مثل مشاكل الإسكان، والفقر، والبطالة، والجودة المتدنية للخدمات التربوية والصحية والاجتماعية والنفسية وغيرها، والتي تلعب دورا كبيرا جدا في خلق مشاعر الاحباط والغليان والتوتر في مجتمعنا، والتي بدورها تلعب دورا مركزيا في حدوث العنف والجريمة في مجتمعنا.


هل يعتبر العنف في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل ظاهرة، أم أنه تحوّل إلى حالة مرافقة لتطور المجتمع وعلينا التكيّف معها، بمعنى أنه علينا أن نخطط لحاضرنا ومستقبلنا في ظل هذه الحالة وإنتاج الأدوات الفعالة لمواجهتها؟

قبل الخوض في الإجابة عن هذا السؤال الشائك جدا، دعونا نطرح بعض البيانات عن حجم مشكلة العنف في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، إن كان في الأسرة أو خارجها، ومن ثم ليستنتج كلٌ منا استنتاجاته عن وضعية هذه المشكلة في مجتمعنا.

رغم الصعوبة في تعريف العنف، والصعوبة في الوصول إلى تعريف متفق عليه بين المهنيين والأكاديميين والباحثين من التخصصات المختلفة، وبالتالي صعوبة إجراء قياس صادق لحجم ومدى انتشار هذه المشكلة في مجتمعنا، إلا أن هنالك بيانات ليس بالإمكان التغاضي عنها وليس بالإمكان عدم أخذها بجدية تامة، إذا كنا بالفعل معنيين بمواجهة هذه المشكلة وعدم التكيّف معها أو العيش في ظلها، وكأنّ هذا هو واقعنا ومصيرنا وما تبقى فقط التكيّف معه.

قبل عدة سنوات أجريتُ دراسة مع عيّنة كبيرة عشوائية من الأحداث والمراهقين، حيث أجابوا على استمارة قاموا بتعبئتها بأنفسهم محافظين على سرية تامة لإجاباتهم، وأعطيتهم الفرصة للإجابة عنها دون تدخل أي طرف. وبهذا نميل للاعتقاد أنهم اخذوا حرية تامة في الإجابة عنها بصدق دون خوف من المعتدي أو خجل من الباحث. وقد طلبت منهم الإجابة عن مدى تعرّضهم لأشكال مختلفة من العنف اللفظي والنفسي والجسدي خلال الإثني عشر شهرا التي سبقت إجراء الدراسة.

نسب عالية جدا منهم أفصحوا أنهم تعرضوا للإهانات والشتائم والتهديد بالضرب المبرح والاستخفاف بهم وبعلاقاتهم الاجتماعية وإنجازاتهم المدرسية من قبل آبائهم وأمهاتهم وأخوتهم. أما بالنسبة لتعرّضهم للعنف الجسدي فقد أظهرت الدراسة أن 10% من الأحداث والمراهقين الفلسطينيين تعرّضوا للتهديد والاعتداء عليهم بأداة حادة وجارحة مثل قضيب حديد، سكين، عصا كبيرة، كرسي أو أي جسم خطير آخر. 9% منهم أفصحوا عن أنهم تعرّضوا لمثل هذا التهديد بالتهجم والاعتداء من قبل احد أخوتهم. كشفت الدراسة أيضا أن 26% و26% و33% كانوا قد تعرضوا للدفع بالقوة، والجرّ بالقوة، والصفع على الوجه والضرب على مناطق مختلفة في الجسم من قبل آبائهم وأمهاتهم وأحد أخوتهم على التوالي، على الأقل مرة واحدة خلال العام الذي سبق إجراء الدراسة. كما وكشفت الدراسة أن 17%، و15%، و20% تعرضوا لاعتداء آبائهم وأمهاتهم وأحد أخوتهم على التوالي بواسطة عصا، أو حزام أو أي جسم مشابه لعدة دقائق من التهجّم على الأقل مرة خلال الفترة المذكورة.

كما ووجدت أنّ 17% من الأحداث والمراهقين الفلسطينيين قد شاهدوا آباءهم يصفعون أمهاتهم ويدفعونهن بقوة على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة. بينما 3% منهم شاهدوا أمهاتهم يتهجمن على آبائهم بتلك الطريقة على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة. كما وبيّنت دراستي هذه أنّ 9% من المشاركين شاهدوا آباءهم يتهجمون على أمهاتهم لعدة دقائق مستعملين أثناء تهجمهم أدوات حادة مثل العصا أو الحزام أو أي جسم مؤذ وجارح آخر، بينما أفصح 2% منهم أنهم شاهدوا أمهاتهم يتهجمن على آبائهم بتلك الطريقة على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة. هذه الدراسة أظهرت أنه كلما ازداد تعرّض الأحداث والمراهقين للعنف والاعتداء المباشر عليهم من قبل والديهم وأخوتهم وكلما ازدادت مشاهدتهم للإساءة والعنف بين والديهم، تتدنى ثقتهم بأنفسهم، ويقل شعورهم بالأمل بالحياة، ويتدنى مستوى تكيّفهم النفسي والاجتماعي.

دراسات مشابهة أجريتها مع أحداث ومراهقين من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع شباب من سريلانكا ومن تركيا ومن تايوان كشفت عن آثار نفسية وسلوكية مشابهة لتلك التي وجدتها لدى الأحداث والمراهقين الفلسطينيين في إسرائيل. إضافة لمشاعر القلق والخوف والكآبة وصعوبات التركيز والتفكير والميل لسلوك تصرفات عنيفة واضطرابات نوم وآرق أثناء محاولة النوم واللامبالاة وغيرها من الآثار النفسية والانفعالية والسلوكية الصعبة.


ما مدى وحجم ظاهرة العنف ضد النساء في المجتمع وآثارها؟

حجم ومدى انتشار مشكلة العنف ضد النساء في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل واسع وآثارها هدّامة جدا، فمثلا، بيّنت إحدى دراساتي عن العنف ضد النساء المخطوبات أنّ 12% منهن تعرّضن للشتم والصراخ والإهانة من قبل خطيبهن على الأقل مرة واحدة خلال فترة الخطوبة، 26% منهن أفصحن أن الخطيب اتهمهن بأنهن فاشلات ولا يعرفن التعامل كما يستحقون من حب ومودة ودلال، على الأقل مرة واحدة خلال فترة الخطوبة. كما أفصح 10% من النساء الخاطبات أنّ الخطيب دفعهن بقوة أو جرحهن بقوة أثناء نقاش حاد على الأقل مرة واحدة، 9% أفصحن أن الخطيب صفعهن على الوجه وضربهن على أماكن مختلفة من الجسم على الأقل مرة خلال فترة الخطوبة، و2% منهن أفصحن أن الخطيب هددهن بسكين أو سلاح ناري أثناء نقاش حاد على الأقل مرة واحدة خلال فترة الخطوبة، كما صرّح 11% منهن أن الخطيب أصرّ على ممارسة الجنس معهن ضد رغبتهن إلا أنهن اعترضن ولم يتم ذلك، و10% أفصحن أنّ الخطيب استعمل العنف الجسدي من أجل إجبارهن على ممارسة العلاقة الجنسية معهن على الأقل مرة واحدة أثناء فترة الخطوبة.

نتائج هذه الدراسة أفصحت انه كلما ازداد تكرار وحدّة تعرّض النساء المخطوبات للعنف اللفظي والنفسي والجسدي والجنسي، كلما تدنت ثقتهن بأنفسهن وازداد التوتر والإجهاد النفسي والقلق والكآبة لديهن. وقد أثبتت دراسات عالمية أنّ هنالك علاقة قوية جدا بين تعرض النساء للعنف أثناء فترة الخطوبة وبين تعرضهن للعنف من قبل أزواجهن بعد الزواج. ولذلك من الأرجح أنّ معظم النساء الفلسطينيات اللواتي يتعرّضن للعنف خلال فترة الخطوبة، إن لم يكن كلهن، يتعرّضن للعنف بأشكاله المختلفة بعد الزواج.


وماذا عن مرحلة ما بعد الزواج؟

أجريت دراسة مع أكثر من 2000 امرأة متزوجة، فلسطينيات من إسرائيل، عن تعرّضهن للعنف بأشكاله المختلفة وآثاره النفسية عليهن، بيّنت أنّ نسبة عالية منهن تتعرّض للعنف النفسي واللفظي والجسدي والجنسي. فمثلا، 20% منهن أفصحن أنّ أزواجهن اتهموهن بأنهن فاشلات مرة واحدة على الأقل خلال العام السابق لإجراء الدراسة، 22% منهن أفصحن أن أزواجهن استخفوا بهن وتعاملوا معهن بأسلوب مهين وجارح على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة، 24% منهن صرّحن أنّ أزواجهن أمسكوا بهن بقوة وحاولوا أن يجروهن وأن يدفعوهن بقوة أثناء نقاش حاد على الأقل مرة واحدة أثناء تلك الفترة، 25% منهن أفصحن أنّ أزواجهن تهجموا عليهن بالصفع واللطم على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة. ما يقارب 9% منهن صرّحن أنّ أزواجهن تهجّموا عليهن بالضرب المتكرر والمستمر دون أن يكفوا عن ذلك لعدة دقائق، مستعملين في ذلك أجساما مختلفة مثل العصا أو الحزام، وما يقارب 2% منهن أفصحن أنّ أزواجهن تهجّموا عليهن بسكين أو بسلاح ناري على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة.

هذه الدراسة أفصحت عن آثار نفسية صعبة حصيلة تعرض النساء للعنف من قبل أزواجهن، مثل تلك التي وجدتها لدى النساء المخطوبات المعنفات، ولكن ما يلفت النظر أنّ نسب عالية بين النساء المتزوجات اللواتي تتعرضن للعنف الزوجي بأشكاله المختلفة أفصحن أنهن فكرن بالانتحار أو حتى حاولن الانتحار من جرّاء تعرّضهن للعنف الزوجي، ونسب عالية منهن صرّحن أنّ اعتنائهن بالأولاد آخذ بالتدهور وعنايتهن بالبيت تدهورت أيضا، كما وأنّ المرأة المعنفة التي تعمل خارج البيت مقابل أجرة أفصحت أنّ تغيّبها عن العمل يزداد كلما اعتدى عليها زوجها مقارنة مع فترة عدم اعتدائه عليها.


إذن، المشكلة واسعة وعميقة جدا ولها انعكاسات خطيرة على الأسرة كلها وعلى المجتمع ككل؟

بالفعل، تدل هذه النتائج على أنّ العنف الأسري، إن كان ضد الأحداث والمراهقين أو ضد النساء الخاطبات والمتزوجات في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، مشكلة واسعة الانتشار لا يمكن الاستهانة بها. مع أنّ الكثير من الباحثين والأكاديميين والمهنيين يظنون أن هذه المشكلة أكثر انتشارا بكثير مما أفصحت عنه دراساتي ودراسات زملائي وزميلاتي، حيث أنّ الكثير من ضحايا العنف الأسري يميلون لعدم الإفصاح عن تجربتهم المؤلمة وذلك لاعتبارات ثقافية وشخصية، مثل الخجل والشعور بالذنب والخوف من الانتقام وغيرها من الأسباب الثقافية والشخصية، هذا إلى جانب قلة الخدمات المتوفرة لمساندة وحماية ضحايا العنف الأسري، مما يولـّد لدى الكثير من ضحايا العنف الأسري مشاعر انعدام الجدوى وتدني الشعور بالأمل والشعور بالهوان والضعف أمام العنف الموجّه ضدهن وبالتالي الارتداع عن الإفصاح عن معاناتهن، ولكن علينا عدم تعميم هذه الاستنتاجات على كل ضحايا العنف الأسري حيث أن هنالك مِن النساء مَن تقاوم وترفض وتحاول بكل ما توفر لها من موارد شخصية وعائلية ومؤسساتية مقاومته وعدم الرضوخ له، ولكن علينا أن نعترف وهذا اعتراف مؤلم بحق، أننا لم ننجح حتى الآن في توفير الحماية والمؤازرة الرسمية والاجتماعية لضحايا العنف الأسري والملاحقة القانونية والعلاج للمعتدين.


هذا بالنسبة للعنف الأسري. ما مدى انتشار العنف خارج الأسرة؛ في المدرسة والشارع وفي المجتمع عمومًا؟

لا شك أننا نشهد أيضا وقوع العنف والجريمة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل بنسب عالية ومقلقة جدا، في معظم البلدات العربية والمختلطة، إن لم يكن في كلها. وأصعب ما في ذلك هو حوادث القتل المؤسفة الآخذة بالازدياد في السنوات الأخيرة. لقد أجريت دراسة عن مدى تعرض الأحداث والمراهقين الفلسطينيين في إسرائيل للعنف في المجتمع، أي خارج الأسرة وخارج المدرسة. وأفصحت هذه الدراسة عن نتائج مقلقة جدا، فمثلا ما يقارب 80% و74% و66% منهم أفصحوا أنهم شاهدوا شخصا يركض وراء شخص آخر ويلاحقه بهدف الاعتداء عليه وإلحاق الأذى به، وشاهدوا شخصا يعتدي فعلا على شخص آخر بالضرب المبرح، وشاهدوا شخصا يعتدي على شخص آخر بالسلاح غير الناري على التوالي.

كما أفصح 21% منهم أنهم شاهدوا الاعتداء على شخص ما حتى الموت، وما يقارب 27% أفصحوا أنهم شاهدوا شخصا يعتدي على شخص آخر بأسلحة نارية. كما وأن ما يقارب 39%، و52% و20% (على التوالي) منهم أفصحوا أنهم تعرّضوا شخصيا للملاحقة من قبل شخص آخر بهدف الاعتداء عليهم؛ وتعرّضوا للضرب من قبل شخص ما في المجتمع؛ وتعرضوا للاعتداء عليهم بأسلحة غير نارية. بينما أفصح ما يقارب 4% منهم انه تم الاعتداء عليهم بأسلحة نارية مما أدى لإلحاق الأذى الجسدي بهم.

كما ويجب ألا تغيب عن أذهاننا مشكلة العنف في المدارس العربية في البلاد، إن كان بين الطلبة أنفسهم، أو من المعلمين ضد الطلبة، وحتى نسمع أيضا عن عنف بعض الطلبة ضد المعلمين وضد ممتلكات المدرسة. ومن المؤسف أيضا أن نسمع عن اعتداء بعض الأهالي على المعلمين وعلى ممتلكات المدرسة. لا أنوي الخوض في مدى وانتشار مشكلة العنف في مدارسنا بأشكالها المختلفة التي ذكرتها، ولكن أظن انه لا يختلف اثنان على أنها مشكلة واسعة الانتشار وآثارها على الطلبة وعلى المدرسة وعلى العملية التربوية، إلى جانب أبعادها الأخلاقية والقيمية، صعبة جدا وتتطلب منا التجند لمواجهتها.

من الواضح إذا، أنّ العنف في المجتمع الفلسطيني واسع الانتشار وآثاره هدامة على الفرد والأسرة والمجتمع، وعلينا ألا نتعامل مع هذه المشكلة على أنها واقع لا مفرّ منه وعلى أنها حالة مرافقة لتطوّر المجتمع لا بدّ منها، وكأنّ ما تبقى علينا فقط التكيّف معها، بتاتًا. هذه مشكلة مؤلمة جدا وينبغي على المجتمع بكافة هيئاته الرسمية وغير الرسمية التجند وبذل كل ما يمكننا من أجل مواجهتها والتثقيف من أجل الوقاية منها، وبنفس الوقت النضال من أجل أن تقوم الدولة بدورها المؤسساتي، العلاجي والوقائي والقانوني من أجل علاج هذه المشكلة. صحيح أننا نسمع لدى قطاعات واسعة في المجتمع الفلسطيني عن مشاعر انعدام الأمل من إمكانية مواجهة هذه المشكلة والشعور بالوهن أمامها، ولكن الويل لنا إن تراجعت عزيمتنا وانحنينا أمام هذه المشكلة التي تكلف مجتمعنا ثمنا باهظا على المستويات الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية وأيضا على المستوى الاقتصادي.


هل العلاقة بين السياق السياسي العنيف الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، ونمو مشكلة العنف في مجتمعنا، هي علاقة مبالغ فيها أم أنها حقيقية؟ وإذا أردنا أن نقيّم رياضيا تأثير السياق السياسي على استشراء العنف مقارنة مع تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية، كيف كنت تقيم ذلك؟

من ناحية نظرية ومنهجية بالإمكان القول إن هنالك علاقة قوية بين الواقع السياسي، بمركباته وآثاره المختلفة كما سأوضح لاحقا، من جهة، وبين نمو مشكلة العنف بإشكاله المختلفة في مجتمعنا والأساليب التي نتبعها لمواجهة هذه المشكلة من جهة أخرى. وحتى نفهم طبيعة ومركبات هذه العلاقة دعنا نوضح أولا طبيعة وحيثيات الواقع السياسي الذي عاشه ويعيشه مجتمعنا. يتطلب فهم هذا الواقع  العودة إلى الوراء قرونا عدّة، ولكن دعني اكتفي بمحاولة فهم "لقائنا" مع الحركة الصهيونية، وبالأخص منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. هذا اللقاء تمثل بأبشع التجارب التي مر بها شعبنا الفلسطيني، ويكفي التذكير بالمجازر وهدم ما لا يقل عن 430 بلدة وقرية ومدينة فلسطينية وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين خارج وطنهم وبعضهم داخل وطنهم ومصادرة الأراضي وهدم البنية التحتية الثقافية والتربوية والاقتصادية للفلسطينيين وإقامة البلدات اليهودية على الأراضي الفلسطينية.

ومع إقامة دولة إسرائيل، استمر هذا "السيناريو" من المعاناة متمثلا بالكثير من الممارسات العنيفة والقامعة والعنصرية والإقصاء عن مراكز القوة وبالكثير من الممارسات ومن أهمها حرماننا من حقنا في التأثير على مصيرنا وعلى السياسات التربوية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، كما يتماشى مع احتياجاتنا، بل نجد مثل هذه السياسات غير العادلة تفرض علينا، وسياسة "فرق تسد" التي لعبت دورا في خلق أجواء ومشاعر الضغينة والشك داخل المجتمع الفلسطيني وليس فقط نحو الدولة ومؤسساتها، وما أفرزته كل هذه الممارسات من فقر وبطالة وضعف البنية التحتية في البلدات العربية، حيث تجد أن الهمّ الأساسي لدى قطاعات واسعة في المجتمع الفلسطيني همّها الأساسي توفير لقمة العيش وصراع البقاء اليومي، وغير ذلك من الممارسات. كل هذا خلق لدى غالبية المجتمع الفلسطيني في إسرائيل مشاعر الإحباط والقهر، والتي بدورها قد تكون المصدر الأساسي لمشاعر الغضب والغليان والتوتر الذي نشهده في مجتمعنا، على المستوى الجمعي والجماهيري وليس فقط على المستوى الفردي والأسري.

كل هذه الممارسات أثقلت كاهل الفرد الفلسطيني والأسرة الفلسطينية والبلدة الفلسطينية، وما زالت تثقله، ومن دراستنا لواقع حياتنا ولطبيعة علاقتنا مع الدولة ومؤسساتها ومع الشارع الإسرائيلي، متمثلا بما ذكرته من قبل، والذي نجده آخذا بالسوء أكثر فأكثر، فأنني لا أرى الضوء في مستقبل هذه العلاقة وبالتالي ظروفنا المعيشية المتدنية من جهة، والهجمة الشرسة على الهوية الوطنية الفلسطينية وعلى استمرار وجودنا في هذه البلاد من جهة أخرى، فأنني أرى تفاقم وتعاظم الغليان والإحباط والتوتر في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، وعلى المستويات الفردية والعائلية والمؤسساتية والمجتمعية عامة، لذا وللأسف الشديد، لا تجدني إلا متشائما بخصوص العنف والجريمة في مجتمعنا، حيث أتوقع أنها ستزداد أكثر وأكثر من حيث حدّتها ونطاقها وآثارها، طالما لا يسير إلى الأحسن واقع حالنا ومستقبل علاقتنا مع الدولة.


هل ترى في طبيعة المبنى الاجتماعي العربي الداخلي عاملا في انتشار حالة العنف وازديادها؟

نعم، فإلى جانب ذلك، العنف في مجتمعنا يجب عزوه لعدة عوامل لا توجد لها علاقة بما ذكرته سابقا، أو قد تكون له علاقة ولكن ليست تلك العلاقة المعنوية والقوية. وأخصّ بالذكر عدة عوامل، أحد العوامل المركزية التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند حديثنا عن العنف في الأسرة وفي المجتمع هو الإيديولوجية والبنية البطريركية الأبوية السائدة في مجتمعنا. أما بالنسبة للإيديولوجية البطريركية، فأقصد بالأساس بالتربية الفارقية التي ننتهجها مع بناتنا وأبنائنا والمتمثلة بالتوقع من الطفلة أن تكون ذات شخصية خنوعة ومطيعة ومتنازلة وعلى أنها مصدر العيب لكرامة وشرف الأسرة بينما نتوقع من الطفل الهيمنة والسيطرة والسيادة لأنه صاحب القوة للدفاع عن كرامة وشرف الأسرة. هذه الفارقية تستمر في كل مراحل تطوّر الفرد، ونتوقع أن تتمثل في العلاقة بين الزوجين. هذه التربية باعتقادي المتواضع هي مصدر المفهوم الخاطئ عن معنى الرجولة والأنوثة، وعن معنى القوة. فالطفل والحدث والرجل الذين يظنون أنّ سيادتهم وهيمنتهم في الأسرة مهدّدة، يشعرون أنّ من واجبهم إعادة "ردّ اعتبارهم" بكل السبل المتاحة، بما فيها العنف والإساءة والتهجّم، ويجدون أحيانا دعما لذلك من محيطهم الأسري وحتى خارجه.

أما بالنسبة للبنية البطريركية في مجتمعنا الفلسطيني، وحتى في كل المجتمعات العربية، فاقصد بها المكانة المتدنية للمرأة في الحيز والمحافل السياسية والاقتصادية والدينية والتربوية والاجتماعية، حيث نجد أنّ مركز القوة في هذا الحيز بأيدي الرجال، متأثرا من الإيديولوجية البطريركية داخل الأسرة. ومن القيم والمعايير السائدة في المجتمع بمؤسساته المختلفة، تلك القين والمعايير المؤيدة لهيمنة الرجال ولخنوع النساء، تلك القيم والمعايير التي تعطي أحيانا الشرعية للجوء بعض الرجال للعنف والإساءة وحتى الجريمة من أجل "الدفاع" عن كل ما يرونه "يهدّد" مكانتهم أو كرامتهم في الأسرة والمجتمع.

ولكن، لنكن منصفين علميا؛ كلنا تربينا في هذا المجتمع حسب تلك الإيديولوجية ومتأثرين من أبعاده إن كانت "سلبية" أو "ايجابية" لتلك البنية، ولكن لسنا كلنا عنيفين في الأسرة والمجتمع. لذا الإنصاف والأمانة العلمية والمهنية تتطلب منا أن ننظر لتلك الإيديولوجية والبنية البطريركية على أنها عامل، من بين الكثير من العوامل الأخرى المؤثرة في حدوث العنف في مجتمعنا. ومن العوامل الإضافية التي أود إبرازها والتي لها صلة بتلك الإيديولوجية والبنية، هو ظنّ البعض أنه لن يدفع ثمنا لعنفه بل تجده يلقى التفهّم وحتى الدعم والتأييد لتلك التصرّفات. فغياب النبذ الاجتماعي للعنف وللعنيف من جهة، وغياب الضبط الاجتماعي الرسمي وغير الرسمي من جهة أخرى يلعبان دورا كبيرا في حدوث العنف وتفاقمه في مجتمعنا.

بالنسبة لغياب الضبط الاجتماعي الرسمي، فالواقع شائك وقاتم جدا، حيث ضعف مؤسسات الرفاهية الاجتماعية، وأخصّ بالذكر مكاتب الشؤون الاجتماعية ومكاتب ومؤسسات رعاية الأحداث والشبيبة ومكاتب ضبط سلوك البالغين ومؤسسات الاستشارة التربوية ومؤسسات الاستشارة والعلاج الزوجي والأسري، ومؤسسات الرعاية النفسية والعلاج النفسي وغيرها من المؤسسات في هذه المجالات، المتوقع منها أن تكون الجهة الأولية والمركزية والعنوان الرئيسي لعلاج مشاكل العنف في مجتمعنا، إن كان في الأسرة أو المدرسة أو المجتمع عامة.

والشرطة هي أيضا مؤسسة مركزية للضبط الاجتماعي والقانوني ولكن كلنا يعلم مدى إخفاقها في أخذ دورها في محاربة الجريمة والعنف الجماهيري الآخذ بالتزايد في مجتمعنا. غياب الشرطة من جهة وعدم ثقة المجتمع الفلسطيني بالشرطة من جهة أخرى قد يلعبان دورا في تولـّد مشاعر انعدام الجدوى وانعدام الأمل لدى ضحايا العنف وفي المجتمع عامة ويبرز ذلك جليا لدى ضحايا العنف الأسري والمدرسي التي لا تجد نجاعة في تدخل الشرطة لتوفير الحماية والدعم للضحايا والملاحقة القانونية للمعتدين، وبالتالي نجد نسبة ضئيلة جدا من الضحايا لا تجد نجاعة في تدخل الشرطة لتوفير الحماية والدعم للضحايا والملاحقة القانونية للمعتدين، وبالتالي نجد نسبة ضئيلة جدا من الضحايا تتوجه للشرطة لطلب تلك الخدمات. هذا الواقع بالطبع إن كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة قد يُشعر المعتدين أنهم لن يدفعوا ثمنا مقابل تصرفاتهم العنيفة مما يزيدهم عنفوانا.

إضافة لهذه العوامل، يجب الأخذ بعين الاعتبار أيضا آثار الأنماط التربوية في الأسرة. أنماط تربوية داعمة ايجابيا ودافئة وتبث روح التآخي والتسامح وتقبل الآخر والمغاير واحترام حقوق الآخرين بنفس درجة احترام حقوق الذات وغيرها من الأنماط التربوية والتنشئة الاجتماعية السليمة تلعب دورا في خلق شخصية واثقة من نفسها، ولديها المهارات للتعامل مع مواقف الضغط والتوتر بترو واتزان، حريصة على المصلحة العامة بدرجة حرصها على مصلحتها الشخصية، ناجحة أخلاقيا وتربويا وتعليميا ومعطاءة لمجتمعها. بينما أنماط "تربوية" عنيفة تكون مصدرا مركزيا وأساسيا يتعلم الطفل من خلاله العنف. لقد وجدت في الكثير من دراساتي دعما لهذا التحليل، فمثلا وجدت أنه كلما زاد واحتد تعرّض الطفل للعنف والإساءة في أسرته تزداد إمكانية تصرفه بصورة عنيفة مع أخوته وفي المدرسة. وفي دراسة أخرى وجدت انه كلما تعرّض الطفل والحدث للعنف والإساءة في الأسرة تزداد مشاعر القلق والخوف والكآبة لديه وتزداد اضطرابات التركيز والتفكير لديه وتقوي إمكانية لجوئه للعنف خلال تعرّضه لمواقف ضاغطة.

وفي دراسة أخرى أجريتها مع شباب مخطوبين وجدت أن الذين أفصحوا من بينهم عن تأييدهم للعنف نحو النساء وبنفس الوقت يتصرفون بأساليب عنيفة نحو خطيباتهم ومسيئة لهن نفسيا ولفظيا نجد أنهم ترعرعوا في أجواء أسرية عنيفة، إما أن يكونوا ضحايا مباشرين للعنف والإساءة، أي قيام احد أخوتهم أو أحد والديهم أو أشخاص معنويين آخرين بحياتهم بالاعتداء عليهم والإساءة لهم، وإما أن يكونوا ضحايا غير مباشرين للعنف والإساءة أي أن يكونوا قد شاهدوا العنف والإساءة بين والديهم، وبالأخصّ مشاهدة عنف الأب ضد الأم، ومشاهدة عنف أو إساءة والديهم لأخوتهم. وفي دراسة أخرى وجدت انه كلما تعرّض الرجل الفلسطيني للعنف السياسي والعسكري تزداد إمكانية اعتدائه على زوجته والإساءة لها جسديا ولفظيا ونفسيا.

وفي دراسة أخرى انتهيت منها مؤخرا مع رجال بالغين، سألتهم عن الأجواء التربوية التي ترعرعوا فيها، وبالأخصّ أجواء الإهمال والإساءة النفسية والجسدية، وجدت انه كلما عانوا أثناء طفولتهم من الإهمال بأشكاله المختلفة، وبالأخص الإهمال التربوي والعاطفي والجسدي، وكلما تعرضوا للعنف والإساءة النفسية واللفظية والجسدية أثناء طفولتهم، تزداد إمكانية اعتدائهم على زوجاتهم وتفاقمت واحتدت إمكانية إساءتهم لزوجاتهم لفظيا ونفسيا. من هنا نجد أن العنف مكتسب ومتعلم، بالأساس من الأسرة ولكن أيضا من المجتمع بهيئاته المختلفة، مثل المدرسة والشارع والتلفاز والحاسوب.

ولكن في هذا التحليل بودي عدم عزو العنف للبعد التعليمي والاكتسابي فقط، بل بودي أيضا الحديث عن أبعاده ونتائجه النفسية والاجتماعية، فالطفل الذي يترعرع على أنماط عنيفة تتولد لديه مشاعر الخوف والقلق والإحباط والتوتر والإجهاد النفسي والشعور انه دائما مهدّد. كما أنّ الطفل الذي يعيش في أجواء عنيفة أكثر عرضة من غيره لأن تقل لديه القدرة على التعاطف المتفهم مع الآخرين. ونجد أنّ الطفل الذي يعيش في أجواء من الإهمال ينمو ويترعرع مع شعور بأنه مرفوض ومنبوذ. والرجل الذي يتعرّض للعنف السياسي والعسكري تتولد لديه مشاعر القهر والإحباط والتوتر والقلق والخوف، إلى جانب سلب الحريات والفقر والبطالة وغيرها من الظروف الناتجة مباشرة عن العنف العسكري. كل هذه الظروف النفسية الناتجة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تلعب دورا معنويا كبيرا جدا في دفع بعض الأشخاص إلى التصرّف بصورة عنيفة نحو الآخرين من أجل تحقيق أهدافهم أو من أجل حلّ نزاعاتهم مع الآخرين أو من أجل التغلـّب على مشاعر غير حميدة تتولـّد لديهم أثناء تعرّضهم لمواقف ضاغطة أو محرجة.

ولكن ليس فقط الأنماط التربوية العنيفة تلعب دورا في تعلم العنف، فغيرها من الأنماط التربوية والعلاقات الأسرية السلبية قد تكون عاملا في اكتساب تصرفات عنيفة لدى الأطفال، ومن ثم يترعرعون عليها حتى الكبر، ويمارسونها في الصغر والكبر. وأخص بالذكر الدلال الزائد والحماية الزائدة وقلة المحاسبة والمساءلة وقلة المراقبة البناءة وتدني التواصل الإيجابي والمتعاطف والمتفهم والداعم بين الوالدين وأطفال الأسرة. مثل هذه الأجواء الأسرية والأنماط الوالدية قد تخلق لدى الطفل شعورا بأنه يحق له أن يتوقع كل ما يريد من والديه وسوف يلبونه له، بغض النظر إن كانت حاجته تتطلب ذلك أو إن كانت قدراتهم تمكّنهم من تحقيق توقعاته. مثل هذه الظروف تنمّي لدى بعض الأطفال تدني القدرة على تحمل الإحباطات وتدني القدرة على تأجيل إشباع الاحتياجات وتدني القدرة على تفهّم قدرات وإمكانيات والديهم في إشباع الاحتياجات، فالاحتياجات بالنسبة لهم "كن فيكون" والترعرع في مثل هذه الأجواء يشعر بعض الأطفال أنهم مركز الأسرة وعلى الأسرة أن تتجند بكل إمكانياتها وطاقاتها لإشباع احتياجاتهم وطلباتهم، كما يحددونها هم، فيقودهم عدم تحقيق مطالبهم إلى الإحباط والتوتر والقلق الشديد، ومثل هذه المشاعر قد تلعب دورا في لجوئهم للاستعانة بالعنف والإساءة لتحقيق طلباتهم وحاجياتهم من جهة، وللتغلب على مشاعر الإحباط والتوتر والقلق من جهة أخرى. مثل ردود الفعل هذه لدى الأطفال نجدها أيضا لدى البالغين في علاقتهم مع زوجاتهم وأطفالهم وأيضا في علاقاتهم الاجتماعية.

من هنا فإن الواقع السياسي وظروف القهر والقمع والإقصاء والعنصرية والتهميش وغيرها من الظروف المرافقة لتعامل الدولة، على كافة مؤسساتها مع المجتمع الفلسطيني والأبعاد الناجمة عنها، تلعب دورا مركزيا في حدوث وتفاقم العنف والجريمة في مجتمعنا. ولكنه ليس بالإمكان  تجاهل عوامل شخصية وأسرية وثقافية واجتماعية مثل التي ذكرتها والتي تؤدي إلى السلوكيات العنيفة والجريمة في مجتمعنا. قد يكون بالإمكان عزو هذه العنف والجريمة إلى طبيعة تعامل الدولة معنا والى مكانتنا كأقلية وطن في هذه الدولة وما تعززه هذه المكانة من ظروف اقتصادية ونفسية وتربوية وغيرها مثل التي تطرقت إليها، ولكن ليس بالإمكان تجاهل عوامل نفسية وتربوية وثقافية واجتماعية مثل التي ذكرتها والتي قد لا تكون لها صلة بالواقع السياسي الذي نعيشه بل هي حصيلة ظروف يعيشها المجتمع الفلسطيني شأنه شأن باقي المجتمعات البشرية وبالتالي هذه العوامل هي مشتركة في الكثير من المجتمعات.

 

هنالك تساؤل حول تأثير الثقافة على ظاهرة العنف من حيث مسبّباتها، طريقتها وغيرها: هل تجد علاقة بين التفسير الثقافي، حتى لو كان في بعض الأحيان استشراقيا، ومميّزات العنف في المجتمع العربي الفلسطيني في اسرائيل؟

الثقافة البطريركية في المجتمع العربي وفي غيره من المجتمعات إن كانت على المستوى الإيديولوجي أو على مستواها وحيزها البنيوي والبنائي، تلعب دورا وعاملا قويا في حدوث مشكلة العنف في الأسرة وفي المدرسة وفي المجتمع عامة، مع أنه علينا الحذر من عزو العنف فقط لهذه الثقافة، ذلك أنّ مشكلة العنف متعددة الأوجه والعوامل والآثار. برأيي الشخصي تلعب هذه الثقافة أيضا دورا بارزا في التستر على حدوث العنف بالأخص تلك الممارسات القاهرة التي تحصل ضد النساء والأطفال، إما لأن قطاعات واسعة في المجتمع تؤيد ضبط المرأة من خلال قهرها وترى في الأطفال ملكا للكبار وأن للكبار الحق في تحديد ماهية مصلحة الأطفال والنظرة للأطفال على أنهم لا يملكون المعرفة عن مصالحهم ولا يملكون الخبرة لتدبّر أمورهم ولا يحق لهم إسماع صوتهم حول كيفما يرون مصلحتهم

هذه الثقافة ليست مقصورة على المجتمع الفلسطيني في إسرائيل بل سائدة في معظم المجتمعات العربية والمجتمعات الجمعية (Collective)، أي تلك المجتمعات التي تفضل مصلحة العائلة والعشيرة والطائفة على مصلحة الفرد، هذه المجتمعات تؤمن بالوئام الأسري والانسجام بين كافة أفراد الأسرة على أنها قيم عليا ولا ترى إلى الصراعات على أنها أمر طبيعي في الحياة الأسرية، وانه أمر لا مفرّ منه وليس بالإمكان منعه أو الوقاية منه. وأقصد بالصراعات اختلاف وجهات النظر وتضارب مصالح حول قضايا اقتصادية أو تربوية أو نفسية أو دينية أو غيرها. واقصد تضارب المصالح ولا اقصد النزاعات الهدّامة. إنّ هذه المجتمعات تؤيد الدعم المتبادل، وهذه قيمة راقية وبناءة في هذا المجتمعات، إلا أنها تتوقع التستر على مشاكل تحدث داخلها خوفا من الفضيحة وشماتة "الآخر"، والمقصود هنا "بالآخر" كل من لا يتبع للجماعة، إما لانتمائه لعائلة أخرى أو لعشيرة أخرى أو لأنه يمثل المؤسسة المهيمنة والقامعة في المجتمع، مثل حالة الفلسطينيين في إسرائيل وعلاقتهم مع الدولة. فمثلا، عندما بدأت بالحديث عن مشكلة العنف ضد النساء، وكان ذلك في بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت ردّة فعل المؤسسات النسوية داعمة ومؤيدة بينما ردّة الفعل الاجتماعية، وحتى من قبل بعض المهنيين في المجتمع سلبية، خوفا من الفضيحة أو لتأييدهم للعنف، أو لخوفهم من أنّ الحديث عن العنف قد يقود إلى تقوية المرأة "وتمرّدها" وكثيرا ما كنت اسمع أنّ المرأة التي تشتكي زوجها للشرطة تستحق العنف والطلاق وغيرها من العبارات التي تعبّر عن أنّ بعض الجهات في المجتمع وبالأخص الرجال التي ترى نفسها الوصي على "الممنوع" و"المسموح" والوصي على "رفاهية المرأة" "وسمعة المجتمع" "والحريص على طهارة ونظافة المجتمع العربي" من تأثيرات ثقافات "غربية" و"هدّامة" وغيرها من العبارات التي لا تساهم قيد أنملة في رفع رفاهية المرأة والمجتمع عامة. ولكن، مثلما قلت سابقا، ليس بالإمكان أن نعزو هذه العبارات أو الآراء فقط إلى الثقافة السائدة في المجتمع بل إلى واقع علاقة المجتمع الفلسطيني في البلاد مع المؤسسة الإسرائيلية والسياق السياسي الذي يكتنف هذه العلاقة.

هذه العلاقة تتصف بعدم الثقة والحذر وانعدام الأمل والجدوى وغيرها من المشاعر مثل التي ذكرتها من قبل. فمثلا، إحدى الدراسات التي أشرفتُ عليها كانت قد قدمتها إحدى الطالبات لنيل شهادة الماجستير في الخدمة الاجتماعية، أفصحت على انه كلما اتصف الرجل والمرأة في مجتمعنا بمفاهيم لا تؤيد المساواة بين الرجل والمرأة في الأسرة والمجتمع، ولا تؤيد حقوق الطفل حسبما نص عليها ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وكلما كانوا لا يثقون بجودة خدمات الرفاهية الاجتماعية في المجتمع، ولا بنوايا العاملين في تلك الخدمات ونوايا الشرطة، لحقوق الطفل، وكلما كانوا لا يثقون بجودة خدمات الرفاهية الاجتماعية في المجتمع، ولا بنوايا العاملين في تلك الخدمات ونوايا الشرطة، يزداد رفضهم لتدخل الأخصائيين الاجتماعيين والشرطة لعلاج حالات العنف ضد النساء والأطفال. مثل هذه الآراء كشفت عنها الكثير من الدراسات التي أجريت في مجتمعات إما تعتبر أقلية في وطنها (مثل الهنود أو السود الأفريقيين في الولايات المتحدة) أو مجتمعات جمعية مثل كل المجتمعات العربية ومعظم مجتمعات جنوب شرق آسيا.

بالمقابل، نجد أن المجتمعات التي يقل بها العنف، بالأخصّ ضد النساء الأطفال وفي المدارس من جهة، والتي تعمل بصورة منتظمة على المستويات الرسمية وغير الرسمية من أجل مكافحة هذه المشكلة من جهة ثانية، تتحلى بعدة صفات ومن أهمها وجود حركة حقوق إنسان عامة، وحقوق المرأة خاصة (وأقصد حقوق في العمل والسياسة والاقتصاد والأسرة وغيرها من الميادين) وسيادة آراء مؤيدة لرفاهية الفرد (ولكنها غير معارضة للرفاهية الجمعية) ولم تكن متورّطة خلال تاريخها المعاصر (أي خلال القرنين الماضيين) في حروب أهلية أو مع شعب آخر، وتعمل على توفير وتقوية الضبط الاجتماعي عبر مؤسسات رسمية (مثل مؤسسات الرفاهية الاجتماعية، ومؤسسات علاج المدمنين والمنحرفين، والشرطة والمحاكم) وعبر جهات غير رسمية في المجتمع (مثل الأقارب وجهات اعتبارية في المجتمع). إضافة لكل ذلك، المجتمعات التي تتجند من أجل نبذ العنف والجريمة من داخلها وتقاوم كل مصدر خطر على سلامتها ورفاهيتها، تتحلى عادة بالتضامن الاجتماعي الهادف إلى تحقيق مصلحة ورفاهية الفرد بغض النظر عن عمره أو جنسه أو انتمائه العرقي أو الديني أو ميوله الجنسية، وتؤمن في نفس الوقت بأنّ رفاهية المجتمع تتحقق من خلال رفع مستوى رفاهية مجمل أفراده، وتعمل جاهدة عبر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من أجل تحقيق ذلك. بينما نجد المجتمعات التي تؤكد على التضامن الطائفي أو العشائري لا تجمعها عادة مصلحة الفرد، وإن عملت على تحقيق رفاهيته فلا يكون ذلك حرصا على الفرد من اجل الفرد بل غيرة على اسم الطائفة أو العشيرة أو المجتمع. هذه المجتمعات يسودها التعصّب الأعمى للعشيرة والعائلة والطائفة والحزب على حساب حقوق الفرد ورفاهيته. هذا التعصّب لا يلعب دورا فاعلا في ردع العنيفين والمجرمين، وإن توفرت الحماية للضحية فتكون آنية، بل إنّ هذا التعصب يلعب للأسف الشديد دورا هداما يتمثل في حب الانتقام وتأجيج نار الفتنة بدلا من السعي للصلح من جهة، وإعطاء القانون فرصة أخذ مجراه من جهة أخرى.

وعندما يقل التضامن الاجتماعي البنّاء في مجتمعنا، إن كان لاعتبارات ثقافية أو كحصيلة للواقع السياسي الذي عشناه وما زلنا نعيشه، كما ذكرت من قبل، فإننا نشهد ازدياد التعصّب العشائري والطائفي والحزبي في مجتمعنا، هذا التعصّب يرافقه غياب الحرص على المصلحة العامة واللامعيارية، واقصد بالأخصّ غياب برنامج وطني في المجالات التربوية والاجتماعية والاقتصادية إلى جانب غياب برنامج لصقل الهوية القومية والوطنية، مثل هذه الظروف والمشاعر تخلق الكثير من اللامبالاة والشعور بالوهن والاغتراب لدى قطاعات كبيرة في المجتمع. هذه الظروف سائدة في مجتمعنا وليس فقط الثقافة البطريركية، وتلعب دورا في تفشي العنف والجريمة في مجتمعنا من جهة، وتشكل حجر عثرة أمام أي محاولة للنهوض في المجتمع من أجل مكافحة هذه المشكلة من جهة أخرى.


أمام هذه الصورة القاتمة والمركبة، ما هي السبل التي يمكن اتخاذها لمواجهة ظاهرة العنف في المجتمع العربي؟

مشكلة العنف في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل مشكلة آخذة بالتفاقم، إن كان في الأسرة أو المدرسة أو المجتمع عامة. وان لم تكن تزداد من حيث انتشارها فهي تزداد من حيث وعينا لها واطلاعنا عليها. وبالأخص، بما أنه لا توجد لدينا بيانات عن حجم ومدى انتشار مشكلة العنف في الأسرة والمدرسة عبر السنين، فليس بالإمكان الجزم أنها آخذة بالتزايد، ولكن قطعا وعينا لحدوث هذه المشكلة المؤلمة في هذين الحيزين آخذ بالازدياد ويبدو أن الاستعدادية لدى المهنيين وقطاعات كبيرة في المجتمع لمواجهتها آخذة بالازدياد أيضا. أما بالنسبة للعنف المجتمعي والجريمة فتوجد لدينا معطيات تثبت أنها بالفعل آخذة بالانتشار والتفاقم أكثر فأكثر. وأيا كان حجم هذه المشكلة في مجتمعنا، فهنالك حاجة ملحّة جدا لأن نتجند بصورة منتظمة وممنهجة وليست عفوية أو فقط عند وقوع الحدث العنيف من أجل معالجة المشكلة، أو على الأقل معالجة ما تخلفه من آثار هدّامة، وفي نفس الوقت الوقاية من حدوثها، من جهة، والاستعدادية الدائمة للتدخل السريع من أجل احتوائها بهدف منع استمراريتها وتفاقمها، من جهة أخرى.

ودعني ابدأ من النهاية، وبدون أي نية مقصودة لبث رؤية تشاؤمية، أقولها بألم إنّ مجتمعنا بكافة هيئاته الرسمية وغير الرسمية لا يملك الجاهزية لا من حيث الموارد المهنية وحتى لا من حيث المعنويات لمواجهة هذه المشكلة. لذا وقبل أن أطرح اقتراحاتي لسبل مواجهة هذه المشكلة في مجتمعنا دعني اطرح بعض المسلـّمات، إذا جاز التعبير، التي يجب أن تتوافر وتتحقق إذا أردنا بالفعل مواجهة مشكلة العنف في مجتمعنا بجدية وبصورة مثابرة ومنتظمة. أول هذه المسلـّمات تتعلق بواقع مشاكل الفقر والبطالة والبنية التحتية في مجتمعنا. من هنا التأكيد مجتمعنا بجدية وبصورة مثابرة ومنتظمة. أول هذه المسلـّمات تتعلق بواقع مشاكل الفقر والبطالة والبنية التحتية في مجتمعنا. من هنا التأكيد على أنه يترتب على الدولة، بكافة وزاراتها المعنية، أن تسعى بصورة جدية لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل وفي نفس الوقت إغناء البنية التحتية بكافة مجالاتها التربوية والاجتماعية والصحية والصناعية وغيرها. قد يكون من الصعب إثبات وجود علاقة سببية بين ظروف الفقر والبطالة المحدقة في مجتمعنا وبين العنف بأشكاله المختلفة وبكافة أماكن حدوثه. ولكن من الواضح أنّ ما لا يقل عن 50% من الأسر الفلسطينية تعيش تحت خط الفقر، هذا ناهيك عن النسب العالية للبطالة في مجتمعنا. هذه الظروف الصعبة من جهة وضعف البنية التحتية في البلدات العربية من جهة أخرى، تثقل كاهل الفرد والأسرة والمجتمع بأكمله. تجدنا مرهقين ومسحوقين نفسيا، ومنهكين من شدة آثار هذه الظروف علينا. كما ذكرت من قبل، فمن آثار هذه الظروف التوتر والغليان الفردي والجمعي والإحباط والشعور باللامبالاة نحو الواجبات المجتمعية وغيرها من الآثار.

وعطفا على ما ذكرته عن أهمية إغناء البنية التحتية، بكافة ميادينها ومجالاتها في مجتمعنا، بودي التأكيد على أهمية إغناء مؤسساتنا بكوادر مهنية في مجالات الخدمات النفسية والاجتماعية والتربوية، وعلى وجه التحديد أخصّ بالذكر الحاجة الماسة لخدمات نفسية لتكون في متناول اليد وتزويد الخدمات النفسية القائمة بمزيد من الأخصائيين النفسيين العلاجيين والأطباء النفسيين والمتخصّصين في العلاج الزوجي والأسري وإغناء مكاتب الشؤون الاجتماعية بمزيد من الأخصائيين الاجتماعيين حيث نجد نقصا حادا في الكوادر المهنية المطلوبة للتماشي مع حجم العبء الكبير الملقى على عاتق الأخصائيين الاجتماعيين في تلك المكاتب، وإغناء مكاتب رعاية الأحداث والبالغين المتورّطين في سلوكيات انحرافية بكوادر علاجية متخصصة، وإغناء مدارسنا بمستشارين تربويين ونفسيين يساندون الطواقم التعليمية والتربوية في أداء مهامها، لتتمثل مساندتهم في أمور علاجية واستشارية للطلاب ولوالديهم وللمعلمين، وإغناء مكاتب الشؤون الاجتماعية بكوادر متخصصة في العمل الجماهيري وتنظيم المجتمع. بلداتنا العربية تفتقر لكوادر متخصصة في هذه المجالات وما هو موجود بعيد جدا جدا عما هو منشود ولا ينسجم مع طبيعة وحجم الاحتياجات والمشاكل الاجتماعية والتربوية والنفسية التي تعمل معها الكوادر المهنية الموجودة حاليا. لذا ليس من الواقعي أن نبني خطة لمكافحة العنف في مجتمعنا في حين تنقصنا الكوادر المهنية المتخصّصة العاملة على تطبيقها.

عنصر مركزي ثالث في هذه المسلـّمات هو الحاجة الماسة لخطة للاستثارة المجتمعية والحراك الجماهيري، ومن أهم أهداف هذا الحراك إخراج مجتمعنا من حالة الركود واللامبالاة واللامعيارية والاغتراب والإحباط الجماهيري، والوصول به إلى مستويات عالية من التضامن الاجتماعي والتكافل المجتمعي والحرص على المصلحة العامة والشعور بالمسؤولية نحو قضايا اجتماعية ملحة، ومنها العنف والإرادة للتأثير على سياسات الدولة نحو مصيرنا ورفاهيتنا وبالأخصّ التأثير عليها في تحقيق المسلـّمات التي ذكرتها من قبل. فدون تضامن اجتماعي لن نجد باعتقادي من يقود حملة مكافحة العنف ولن ننجح في تجنيد ما لدينا من موارد إنسانية وبشرية وغيرها لنستثمرها في التأثير على واقعنا بكل ميادينه ومجالاته. أظن انه لا يختلف اثنان على أنّ هنالك كما لا بأس به ونوعية غنية من الموارد البشرية المهنية والحرفية التي لا تستثمر من أجل خدمة مجتمعنا، من خلال برنامج حراك اجتماعي يبادر مجتمعنا للتخطيط له ولتنفيذه. هذا لا يتضارب مع حديثي عن ضعف البنية التحتية الرسمية التي تقع على عاتق الوزارات الإسرائيلية مسؤولية تقويتها. ومن أجل تجنيد الموارد المتوافرة أوصي بأن تقوم كل بلدة وبلدة ببناء خطة للعمل التطوّعي، بما يتماشى مع ما هو متوفر لديها من موارد بشرية ومع طبيعة احتياجاتها. هذا يتطلب إجراء مسح شامل للاحتياجات الملحة لكل بلدة على المستويات التعليمية والتربوية والثقافية والاجتماعية والصحية والنفسية والاقتصادية وجودة البيئة والحدائق العامة وغيرها من المجالات، وبالمقابل إجراء مسح شامل للموارد البشرية إن كانت مهنية أو حرفية وغيرها، ومن ثم رسم خطة للتنمية الشاملة والاستعانة بتلك الموارد لتحقيقها. فيمكن على سبيل المثال الاستعانة بالمعلمين المتقاعدين وطلبة الجامعات للنهوض بالمستوى التعليمي والتربوي والثقافي في البلدة.

هنالك الكثير من الأمثلة التنموية التي بالإمكان طرحها هنا ولا أريد إطالة الحديث عنها، حيث اترك لكل بلدة أن تحدّد لنفسها المجالات التنموية التي تحتاج إلى تحقيقها من خلال الكوادر البشرية المتوفرة لديها. يؤلمني جدا في حقيقة الأمر عندما أرى الكم الهائل من الشباب وغيرهم يضيع وقتهم بالجلوس على المقاهي وغيرها من الممارسات التي ليس بالإمكان اعتبارها إلا مضيعة لوقتهم الثمين، في الوقت الذي يكون فيه استغلال وقتهم وخبراتهم في عمل تطوعي نهضوي يخدم المصلحة في بلدتهم. يحضرني مشروع بنك التطوّع في بريطانيا، هذا المشروع أثبت نجاعته التنموية بصورة رائعة جدا في إشباع الكثير من الاحتياجات الفردية والأسرية والاجتماعية عامة، بموجب هذا المشروع يوجد في كل بلدة مؤسسة للعمل التطوّعي، تأخذ على عاتقها إجراء المسحين الاجتماعيين اللذين ذكرتهما من قبل، وتقوم بمواءمة المعنيين بالعمل التطوعي من خلاله. فمثلا، قد يقول مسن أنا بحاجة لمن يساعدني في تصليح أو ترميم بيتي، ومقابل هذه المساعدة يقوم المسن بعمل تطوّعي في مجال قدراته وطاقته، مثلا يساعد الطلاب الذين يحتاجون إلى الدعم التعليمي في مجالات معينة.

أثبتت الدراسات أن للعمل التطوعي ليس فقط بعدا تنمويا في المجالات التي يتحقق من خلالها بل نجده مؤثرا جدا على النفسية الجماهيرية التي تحدثت عنها. حيث يساهم في التغلب على مشاعر اللامبالاة والتفكك الاجتماعي والإحباط وينهض بروح التضامن الاجتماعي والشعور بالأمان لدى المواطنين بأنّ هنالك من يدعمهم ويوفر لهم الخدمات إن لم يكن بإمكانهم اقتناؤها. لقد رفضنا الخدمة المدنية، وبحق، لاعتباراتنا الصادقة، ولكن لم نوفر البديل. نحن بأمس الحاجة لبنك العمل التطوعي ولكن ليس فقط ليقوم بأعمال فردية كالمثال عن المسن، بل أيضا ليقوم بأعمال جماعية وجماهيرية في المجالات التي ذكرتها من قبل.

 

قد يتساءل البعض كيف بإمكان العمل التطوعي أن يساهم بحل مشاكل العنف؟

بإمكاننا من خلال العمل التطوعي إغناء البنية التحتية في البلدات العربية من جهة، والتغلب على حالات الإحباط والغليان والتوتر وانعدام الثقة المتبادلة واللامبالاة وغيرها من المشاعر النفسية على المستوى الجماهيري من جهة أخرى. وهذا بالطبع عمل وقائي من شأنه التقليل من العوامل التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالعنف في الأسرة والمدرسة والمجتمع.

فالأسرة التي تجد من يناصرها بإشباع احتياجاتها يخف توترها وشعورها بالإنهاك والغضب وبالتالي قد تقل إمكانية العنف داخلها. والمدرسة التي تجد من يخفف عنها عبء النهوض بالمشاكل التعليمية لدى بعض طلابها، يخف لدى طلابها ومعلميها وأولياء أمورها التوتر والإحباط وبالتالي قد تقل سلوكياتهم العنيفة. لا أريد الإطالة بمثل هذه الأمثلة ولكن أود التأكيد أن البحوث العلمية أثبتت بصورة لا شك فيها أن المجتمعات التي يقل فيها العنف، إن كان في البيت أو في المدرسة أو في المجتمع، وتقل فيها الجريمة، هذه المجتمعات تتصف بمستوى عال من التضامن الاجتماعي والتعاون والدعم المتبادل والحرص على المصلحة العامة.

 

ما هي الاقتراحات التي يجب أن تترتب على هذه المسلـّمات في برنامج مكافحة العنف؟

أولا، لا ادعي أنّ تحقيق هذه المسلـّمات هي الطريق المؤكد والناجح لمكافحة العنف في مجتمعنا، لكن لا شك أنه بدونها سيكون من الصعب علينا تحقيق أي خطة لمكافحة أي شكل من أشكال العنف في مجتمعنا.
بعدما طرحت هذه المسلـّمات، دعني أطرح بعض المقترحات. بالطبع هنالك حاجة لخطة منفردة لمكافحة العنف في مواقع حدوثه المختلفة، في الأسرة وفي المدرسة وفي المجتمع. ولكن لطبيعة هذه المقابلة قد يكون من الصعب طرح خطة لكل موقع من هذه المواقع، لذا دعني أتحدث عن توصيات عامة قد تلائم واجبنا في مكافحة العنف في مواقع حدوثه المختلفة. توصية أولى مركزية تتعلق بدور الشرطة للإسراع في جمع السلاح غير المرخص المنتشر بكثرة في مجتمعنا. نحن نشهد في الآونة الأخيرة عمليات قتل، إن كانت عفوية وغير مخطط لها حيث تحدث أثناء شجار لم يكن مبرمجا، وعمليات قتل مقصودة ومبرمجة، إما على خلفية شجارات سابقة والنية بالانتقام أو على خلفية انحرافية. مجتمعنا وحده لا يملك القدرة على منع السلاح، لذا على الشرطة أن تسارع إلى مصادرته، وبالتوازي على الهيئات الرسمية وغير الرسمية في مجتمعنا أن تبادر إلى تنفيذ حملة جماهيرية توعوية تنادي من خلالها إلى عدم اللجوء للسلاح لحل النزاعات، والإقناع انه لا حاجة لاقتناء السلاح وحتى الإقناع للابتعاد عن اقتناء السلاح "المرخص". باعتقادي ومن تجربتنا مع الشرطة، لا أراها تقوم بمثل هذه الحملة. لذا هنالك حاجة ماسة لتفعيل ضغط جماهيري وسياسي وقانوني مستمر وممنهج على الشرطة، وليس عفويا أو فقط عند حدوث حادثة قتل، حتى تقوم بدورها في مكافحة العنف المجتمعي والجريمة في مجتمعنا. كما انه ملقاة على عاتق الشرطة مسؤولية قصوى في مكافحة العنف المجتمعي، وغيره من أشكال العنف، بصورة حازمة ورادعة، وبالتالي عليها عدم الاستمرار بإلقاء اللوم على مجتمعنا وكأنّ "عدم تعاون" مجتمعنا مع الشرطة هو السبب في فشلها وعدم قيامها بدورها في مكافحة العنف في مجتمعنا، كما تدعي الشرطة.

توصية أخرى أود التأكيد عليها هي الحاجة الماسة إلى حملة جماهيرية تثقيفية ممنهجة تعمل مع فئة الشباب بالأساس ومع الأسرة الفلسطينية عامة، تهدف إلى تغيير المفاهيم الخاطئة عن الرجولة والمتمثلة بالهيمنة والسيادة المجحفة والقوة الجسدية والعنف والمفاهيم الخاطئة للكرامة والشرف واستبدالها بقيم إنسانية بناءة مثل التسامح والتعاطف مع الآخرين وتسييد خطاب الحوار والاحترام المتبادل والتحلي بالصبر أمام النزعات والخلافات واللجوء للجهات المهنية الرسمية والجماهيرية وغير الرسمية لحل تلك النزاعات بدلا من اللجوء للضغينة والعدائية والعنف والانتقام. كما وهنالك حاجة ماسة إلى حملة جماهيرية توعوية ممنهجة، عبر ورشات عمل ومحاضرات ومناشير تثقيفية، تصبو إلى دحض ونبذ التعصّب العائلي والطائفي والحزبي ونبذ التحريض في هذه المجالات واستبدالها بالانتماء الوطني والقومي وصقل الهوية القومية، إلى جانب الاعتزاز بالجوانب الايجابية في تلك الانتماءات لكن دون التعصّب لها.

وصقل الهوية القومية، إلى جانب الاعتزاز بالجوانب الايجابية في تلك الانتماءات لكن دون التعصّب لها.

من الواضح أن التعصّب يقود إلى التشنج الفكري والانفعالي، وبالتالي الإمكانية واردة أن يقود هذا إلى الانزلاق الأخلاقي وإلى سلوكيات مسيئة وعنيفة. قد يكون أحد المضامين الفكرية التي تسعى إلى ترويجها هذه الحملة هو احترام الإنسان لكونه إنسانا واحترام حقوقه. لا احترامه لانتمائه وانتماءات اخرى قريبة منا. مثل هذه المضامين والثقافة ليس من السهل تحقيقها، لذلك أكدتُ على أهمية أن تكون الحملة ممنهجة ومستمرة عبر السنين وليست عشوائية ومنوطة بموقف عنيف يحصل هنا وهناك.

أوصي أيضًا بأن تقوم مؤسسات الشؤون الاجتماعية في البلدات العربية بتقديم خدمات استشارية عن الحياة الزوجية والعلاقات الزوجية والأسرية، والأنماط الوالدية السليمة، ومهارات التواصل السليم الزوجي والوالدي. نحن في أمسّ الحاجة لمثل هذه الاستشارة وبالأخصّ للأزواج الشابة الذين قد تنقصهم المعرفة عن هذه المجالات أو الذين لم تسنح لهم الفرصة، لاعتبارات ثقافية أو غيرها، التعرّف على بعض عن كثب أثناء فترة الخطوبة. لذلك فإن تزويدهم بالمعرفة عن تلك المجالات وبالمهارات لتحقيقها قد يلعب دورا في الوقاية من العنف في الأسرة، وبنفس الوقت سيساهم في رعرعة جيل خلوق ومتزن نفسيا وبهذا قد نساهم في التقليل من العنف المدرسي والمجتمعي أيضا.


ذكرت العنف المدرسي والجماهيري، هل لديك اقتراحات عينية لمكافحة العنف في المدرسة وفي جهاز التعليم العربي وفي المجتع عامة، خاصة وان الأبحاث تشير إلى تفاقم مشكلة العنف في التعليم العربي مقارنة مع مجتمعات أخرى؟

علينا أن نعمل بشكل دؤوب لمكافحة العنف في المدارس. لقد أثبتت الدراسات أنّ نسبة العنف في المدارس العربية مرتفعة مقارنة مع مجتمعات أخرى. إن كان العنف بين الطلبة وعنف المعلمين ضد الطلبة وإن كان اعتداء الطلبة على ممتلكات المدرسة، ونسمع من حين لآخر عن اعتداء بعض أولياء الأمور على أعضاء الهيئة التدريسية. مؤلم جدا أن نسمع عن هذه التصرّفات في الوقت الذي نتوقع فيه أن تكون المدرسة الصرح الأخلاقي والتربوي في مجتمعنا، الصرح النهضوي الذي نعوّل عليه التغيير وبناء لبنات الحياة الكريمة للأجيال القادمة.

أوصي بأن تضع لجنة متابعة قضايا التعليم العربي هذه المشكلة على سلم أولوياتها، تتوفر في هذه اللجنة الكوادر الكافية ولديها المعرفة والخبرة الواسعة لتكون رأس الحربة في مكافحة هذه المشكلة. فمثلا، بالإمكان إقامة لجنة فرعية، منبثقة عن هذه اللجنة، لترسم خطة شاملة لمكافحة هذه المشكلة والحرص على تجنيد الكوادر المهنية المحلية والقطرية لتطبيقها وأيضا الإشراف على تطبيقها.

أحد مركبات وعناصر هذه الخطة يجب أن تكون إغناء المعلمين بمهارات ناجعة للتعامل مع الطلاب تكون بديلة للعنف، فالإصغاء والدعم واحترام الفوارق الفردية بين الطلاب واحترام قدرات وطاقات الطلاب، وتفهّم الخلفيات التي يأتون منها والحزم العلمي والمهني وليس الحزم التقليدي، واحترام حقوق الطلاب حسب حاجياتهم ومراحل نموهم، وغيرها من المهارات البناءة هي السبيل لنشأة جيل واثق بنفسه، يعتز بنفسه، غير مقهور، يفخر بمعلميه، معطاء لمجتمعه وليس ناقم على صرحه التعليمي والتربوي. الكثير من المعلمين يتخرّجون من كليات وجامعات دون أن يكونوا قد شاركوا في مساق أو دورة علمية مهنية عن أساليب التواصل مع الطلاب عموما، وعن أساليب مكافحة ومواجهة العنف في المدرسة خصوصا. لذا يترتب على دائرة التربية والتعليم في كل بلدة أو منطقة أن تعقد دورات عن تلك المواضيع والمهارات، وبالإمكان عقد هذه الدورات بالتعاون مع لجنة متابعة قضايا التعليم العربي وتحت إشرافها. كما أوصي بأن تعمل المدرسة على توطيد علاقات التعاون والتكامل مع لجنة أولياء أمور الطلاب، فبإمكان هذه اللجنة أن تلعب دورا داعما ومكملا للدور الذي تلعبه المدرسة، مثل هذا التعاون، بإمكانه أن يخلق أجواء التضامن والشعور بالشراكة في تحقيق المصلحة المشتركة، بدلا من أجواء النفور والصدام التي تحصل أحيانا بين المدرسة ولجنة أولياء الأمور.

أعتقد أن في مقدور هذه اللجنة أن تلعب دورا حيويا في رأب الصدع الذي تخلقه حالات العنف الصعبة التي تحدث في المدرسة وتنتقل آثارها وأصداؤها إلى خارج المدرسة، وأحيانا بين عائلات الطلاب، لما يتركه ذلك من آثار هدّامة. لذا بإمكان اللجان أن تؤازر المدارس في معالجة تلك الأحداث ومنع تفاقمها.

بالتوازي، أوصي لجنة مدراء مكاتب الشؤون الاجتماعية والدوائر الاجتماعية في مختلف ميادين عملها في البلدات العربية أن تعمل جاهدة للضغط على وزارة الرفاه الاجتماعي وعلى باقي الوزارات لتقوم بدورها كما ذكرت من قبل (مثل زيادة عدد الكوادر المهنية المتخصصة، إغناء البنية التحتية وغيرها(.

كما أوصي هذه اللجنة بأن تقوم بصياغة خطة شاملة للنهوض بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلدات العربية لتأخذ دورها الفعال في علاج مشاكل الإدمان والانحراف والعنف الأسري والجماهيري وأن تكون  السباقة في احتواء أي حدث عنيف، وبالأخصّ حوادث القتل والعنف الجماهيري على خلفياته المختلفة، ومنع التدهور وتفاقم الصدام بين الجهات المتخاصمة، وفي الكثير من الأحيان يلحق حالات العنف والقتل تصرفات انتقامية مؤلمة ومؤسفة جدا، ولا نجد من يبادر لاحتوائها ومنع استمراريتها. لتحقيق ذلك اقترح إقامة طواقم طوارئ متخصّصة مؤلفة من جهات مهنية وغير مهنية ولكن لها اعتبارها الجماهيري والاجتماعي والسياسي، لتبادر في الحال لاحتواء مشاكل العنف ومنع تفاقمها، والقيام بإجراءات تهدئة الخواطر، والصلح إذا أمكن، إلى جانب إفساح المجال أمام القانون ليأخذ مجراه، إذا اقتضى الأمر.

في النهاية، دعني أنهي كلامي بالتأكيد على أنه يترتب على كل منا أن ينبذ عقلية الثأر واستبدالها بعقلية التروي. علينا نبذ عقلية الهيمنة والسيطرة واستبدالها بعقلية التكامل والدعم المتبادل واحترام الفوارق الفردية، ونبذ ظروف الشرذمة واللامبالاة واستبدالها بواجبنا لخلق مجتمع متضامن ومتكافل، لنخرج من الشعور بالوهن والضعف وانعدام الأمل، ولنسعى أن يكون مصيرنا في أيدينا ونؤمن أنه بإمكاننا أن نحقق رفاهيتنا بأنفسنا دون التنازل عن حقنا في انتزاع حقوقنا بالمساواة الكاملة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها إلى جانب المحافظة على هويتنا القومية في هذه البلاد، وصقلها بما يتماشى مع طموحاتنا وواجبنا نحو أنفسنا وليس كما تريده لنا المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة.



معطياتالمصدر:  كتاب دراسات 2010، كتاب الأبحاث السنوي لمركز دراسات

= العنف تجاه النساء المخطوبات

 12% من المخطوبات تعرّضن للشتم والصراخ والإهانة من خطيبهن؛
 26%
اتهمهن الخطيب بأنهن "فاشلات" و"لا يعرفن التعامل بحب ودلال"؛
 10%
دفعهن الخطيب بقوة أو جرّهن بقوة أثناء نقاش حاد بينهما؛
 9%
صفعهن الخطيب على الوجه وضربهن على أماكن مختلفة؛
 2%
هدّدهن الخطيب بسكين أو سلاح ناري خلال فترة الخطوبة؛
 11%
أجبرن على ممارسة الجنس مع الخطيب ضد رغبتهن؛
 10%
تعرّضن للعنف الجسدي من الخطيب لممارسة الجنس.

= العنف تجاه النساء المتزوّجات

 20% من النساء المتزوّجات اتهمهن أزواجهن بأنهن "فاشلات"؛
 22%
استخفّ أزواجهن بهن وتعاملوا معهن بأسلوب مهين وجارح؛
 24%
أمسك بهن أزواجهن بقوة وجرّوهن ودفعوهن أثناء نقاش حاد؛
 25%
تهجّم عليهن أزواجهن بالصفع واللطم؛
 9%
تهجّم عليهن أزواجهن بالضرب المستمر بعصا أو حزام؛
 2%
تهجّم عليهن أزواجهن بسكين أو بسلاح ناري.

= وصيات واقتراحات لمواجهة العنف

 مطالبة الشرطة بمصادرة السلاح؛
 
وضع خطة شاملة لمكافحة العنف في جهازالتعليم؛
 
زيادة الكوادر المهنية وإغناء البنية التحتية؛
 
زيادة الخدمات الوقائية والعلاجية؛
 
تقديم خدمات استشارية عن الحياة الزوجية الأسرية؛
 
تعزيز التضامن والتكافل الاجتماعي؛
 
حملة تثقيفية عامة ضد اللجوء للسلاح؛
 
حملة تثقيفية للشباب حول مفاهيم الرجولة؛
 
حملة جماهيرية لنبذ التعصّب والتحريض العائلي والطائفي.

-------------

* المصدر: دراسات المركز العربي للحقوق والسياساتדיראסאת, המרכז הערבי למשפט ומדיניות – Dirasat, Arab Center for Law and Policywww.dirasat-aclp.org – 1.2.2011.

 

7/25/2011