מאמרים
היסטוריה, זיכרונות
תרבות
Français English عربى  Etc.

يوناني في القاهرة

بقلم: د. رفعت السعيد*

عندما صدرت مجلة أدب ونقد كمنبر يساري للفن والأدب، وكمحاولة من حزب التجمع لفتح صفحاتها أمام المبدعين اليساريين والليبراليين والتقدميين، طاف بها حلم أن تصدر كتابا شهريا يفتح آفاقا جديدة أمام الثقافة الديمقراطية والإبداع التقدمي.

وكان أول هذه الكتب، الطبعة الأولي للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكس «رحلة إلي مصر- الوادي وسيناء» ترجمة محمد الظاهر ومنية سمارة. صدر الكتاب وأحدث ضجيجا خفت بمضي الزمن حتي تفضلت الهيئة المصرية العامة للكتاب بإصدار طبعة ثانية منه منذ أسبوعين.

وقد زار كازانتزاكس مصر خلال عامي 26-1927 بتمويل من الجريدة اليونانية «اليغثيروس لوتموس» وكتب سلسلة مقالات ودراسات نشرت بعد ذلك في كتاب بعنوان «ترحال». وهذا الكتاب هو الجزء الخاص بمصر من «ترحال».

وكازانتزاكس ليس مجرد صحفي ولا رحالة لكنه اديب ذو لمحات سحرية في كتاباته، فهو يكتب وكأنه مسحور بما يري ويفرض عليك ظلالا من سحرية في كل فقرة من كتاباته، ونقرأ في الأسطر الأولي من الكتابة «أننا نعيش في عصر ذي صرخة خاصة بإمكانها إخماد كل الأصوات المرحة الرائعة للجمال والحكمة،هذه الأصوات التي أصبحت غير ذات جدوي لمتطلبات الحياة اليومية».

 

 نيكوس كازانتزاكس (1957-1883)

 

ويمضي كازانتزاكس ليعزف عبر ناي سحري نغمات تجد طريقها فورا نحو القلب «أنني أتي إلي مصر في الوقت الذي تستعبد فيه الروح الإنسانية بواسطة الآلات والجوع، ونناضل من أجل الخبز والحرية، فصرخة العمال التي تصاعدت كدخان الكراهية هي صرخة الأرض الأرض التي تمزق القلب.وظلت في أذني طوال رحلتي، ثم «أن الطبيعة خاضعة ومستعبدة تماما كالفلاحين.

فالفلاح يبدو كقطعة ديكور في الصورة العامة إنه مصنوع من نفس الطين ويحني قامته طوال اليوم أمام النهر ويعمل دوما باتقان مطلق ومهانة مطلقة».. «الفلاح يكدح وتأتي الثمار وفي النهاية يأتي ختام هذا الكدح «الأفندي» الذي يستولي علي ثمار الكدح.. إنه ذلك الوجه السرمدي الذي يأتي دوما ولكن بأسماء مختلفة.. فرعون – كاهن- اقطاعي- تاجر- مرابي كلهم يأتون فقط للاستيلاء علي الثمار. وتتساءل عيناي إلي متي يستمر هذا الصراع الأبدي».

وقد اندهش كازانتزاكس من هذا التنوع البشري في حارات وشوارع القاهرة ويقول «هذا هو الشرق طافح بالنور والألوان والعطور، ورماد أجيال عديدة لا تحصي، أتت من طمي النهر، وجفت كما تجف قوالب الطين في الشمس، ثم تحولت ثانية إلي طمي».. «واستمع في شوارع القاهرة برؤية المحصول الإنساني الآتي مع النيل الفلاحون الناحلون المرهقون من العمل والجوع، والأقباط الماكرون والبدو الصامتون وفي عيونهم نظرات نسر حادة وزنوج بشفاهم الغليظة ونظراتهم المفترسة، ونسوة كحيلات العيون بخلاخيل فضية كالعبيد، ووسط هذه الظلمة الإنسانية الملونة، والتي تفوح منها رائحة المسك والروث كان الأوربيون شاحبين كالمرضي ويبدون كالمصابين بالدوار»..

«والقاهرة مثلها مثل أي مدينة شرقية تملأ الرأس بالضجيج والحيرة.. ألوان، عطور، رجال، نساء، أفكار، قضايا أخلاقية، مشاكل اقتصادية، كل هذا الهيجان السريع الزوال ينبض في طمي النهر وينضح تحت الشمس الإفريقية الساطعة. وإحساسي الداخلي يؤكد أن الحياة هنا تمضي وفق قانونين فرضا القيادة الكهنوتية علي هذا الجانب الفوضوي من الحياة المصرية القانون الأول هو المعيار النسبي .

الحياة وعبر آلاف السنين في مصر انتظمت وفق المعايير الذاتية لعدد قليل من القادة الذي ساقوا الفلاحين إلي الحقول كالحيوانات قائلين «احفروا وازرعوا واسقوا إما نحن فسوف ننهب الخيرات، وهذا القانون بث في قلوب المصريين عبر آلاف السنين روح الحقد والانتقام .. لكنهم ابدا لم يحاولوا الاتحاد معا للهرب من هؤلاء القادة والقوانين الجائرة ومن الآلهة التي حفروا صورها وتماثيلها بأنفسهم في الجرانيت.

وحتي الآن لم يزل الفلاحون يعانون من الجوع والاجهاد كما لو كانوا دوما عبر آلاف السنين.. وتتمزق قلوب الرجال النبلاء دون أن تستطيع صنع الخلاص. أما القانون الثاني فهو المعيار الفظ المطلق هذا المعيار الذي يجمع لك كل هذه الأمواج البشرية في صوره واحدة وتتسم مباشرة في عينيك بكل بطولتها وشجاعتها وبؤسها وفقرها دون أي محاولة للخداع.

ولا يمكن أن تشعر في أي مكان بالعالم بهذا الإحساس الذي يمتزج فيه البؤس والعنف بلذة التواصل بين الحياة والموت».. «وأنا الذي أحب الخطوط المحددة «نعم» أم «لا».

أري مصر بوجهين الأخضر والصحراوي».. «وهكذا الفقر- الفسق- الفجور- القوة- الخضوع- الشموخ، العبودية كلها تنمو بشكل متسق ومتوافق ومؤتلف في هذه التربة الندية الدافئة، الخصبة المحاطة بهذه الصحراء المرعبة» لكن كازانتزاكس يستخلص من هذه الرؤية الفلسفية الغامضة عبارة شديدة القسوة يقول فيها «والمصري باستثناء لحظات نادرة في تاريخه، لم يجعل الحرية غاية له أبدا.

ففي حياته السياسة كان عليه أن يطيع القادة، وفي الفنون كان عليه أن يتبع القواعد الراسخة، وفي الفكر يتبع تقاليد العصور السابقة، وفي الحياة يفني وقته بحثا عن الخبز. وهكذا ولآلاف السنين كانت غايته هي هزيمة الموت».

ومهما قلبت صفحات هذاا لكتاب الأسطوري تكتشف أنك لم تعرف بعد لا مصر ولا المصريين، وأن هذا الكاتب ذا الناي الساحر كان فقط يكشف لك النقاب عن الجراح الغائرة في النفس المصرية.

ثم يفلت منك ليتركك كي تبحث عن مفتاح الوجود.. بكل ما فيه من قسوة وعنف وسعادة وخضوع.

--------------

* رفعت السعيد (1932) - سياسي مصرى ويرأس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. ترأس حزب التجمع خلفًا لخالد محيي الدين. يعتبر من الأسماء البارزة السابقة في الحركة  الشيوعية المصرية منذ أربعينات القرن العشرون وحتى نهاية السبعينات. اعتقل مرات عديدة، كما اعتقل سنة 1978 بعد كتابته مقالا موجها إلى جيهان السادات زوجة الرئيس المصري محمد أنور السادات بعنوان "يا زوجات رؤساء الجمهورية إتحدن". عرف بمعرضته لجميع الرؤساء الذين حكموا مصر، إلا أن معرضته للرئيس السادات كانت الأكثر جذرية حسب وصفه. له العديد من المؤلفات النقدية لحركات الإسلام السياسي، ويعتبر من أشد المعارضين لجماعة الاخوان المسلمين.

المصدر: جريدة الأهالي – www.al-ahaly.com  - 14 أغسطس  2012.

 

 

 

8/27/2012