تعددت الحكاياتُ والطرق، وظهرتْ وجوه واختفت وجوه، وتعددت النوافذ، وتغيرت الإيقاعاتُ والأغاني، وظلّ الندى يلتمع بين الكلماتِ وفوق أوراقِ الشجر وعلى أهدابِ العابرين والهاربين، وعلى امتدادِ النظر. لهذا السبب حين تسأل حكايتي الجديدة نفسها: ما أنا؟ ستجيب بعد قليل: "أنا حكاية ندى أيضاً، يدخلني هذا الغريبُ أو ذاك، ويتغلغل في تفاصيلي هذا الفلسطيني أو ذاك، وقد يخرج الجميع مني إلى حكاياتٍ أخرى، وأظلّ حكايةً متواصلةً عن الندى".
هذه بداية جميلةٌ لقصة كما أعتقد، لأنها تلائم الذين غابوا وراء تلّةٍ أو منحدر، والذين جاؤوا من حكاياتٍ أعرفُ بعضها، وقد أتخذُ طريقي إلى بعضها ذات يوم. إنها ملائمةٌ مثل أي قصةٍ حقيقيةٍ حدثتْ وتحدث وستحدثُ، أو هذا هو ما أشعرُ به على الأقل وأنا أنظر إلى الصورة التي وصلتني منذ وقتٍ قريب: صورة أربعة أشخاصٍ يواجهون عدسة التصوير واقفين فوق وبين بقايا بيتنا في أم الزينات؛ بضعةُ أحجارٍ وخضرةٌ داكنةٌ طالعةٌ بينها وتحتها وفوقها، وظلالُ أشجارٍ تحفّ بهذه البقعةِ الصغيرة تحت شمس أوائل النهار.
أربعةُ وجوهٍ مرتبكةٍ على حافة الإبتسام، كأن أصحابها يودون أن يقولوا لي: "نعم.. نحن هنا لإثباتِ أن لك بيتاً في أم الزينات"، أو ليقولوا: "يؤسفنا أنك لست معنا الآن"، أو ليقفوا هكذا بلا صوتٍ يتطلعون إليّ أنا البعيد عنهم تاركين لما حولهم أن ينطق ويشير. وقفة رمزية ربما. أو لعلهم يريدون أن يقولوا، ها هم وصلوا أخيرا متتبعين آثار الشيخ حمزة ودوروثي غرود وخالي المسلح العنيد إلى هذا الوادي المنسيّ، وليكتشفوا أن قريتي الغائبة عن أنظارهم ظلت ترافق مسار حياتهم، وتواصل حياتها وإن وراء جدار أو أشجارٍ، أو رواية أخرى زرعها في أذهانهم مدرس لاهوتٍ قادمٍ من غيتو وارسو، فمحا بها أم الزينات وأهلها من مخيلة وبصرِ التلاميذ الأبرياء.
ولكن يوسف الغازي، الذي يتوسط الصورة بجسده الضخم وشاربه التركي الكثيف وإشارة يده والتفاتته كأنما إلى رأس جبلٍ قريب أو تلة، يعرف لماذا هو هناك. فهو من طلب من الفحماوي الواقف إلى جانبه مشيراً إلى جهة معاكسة أن يقوده، هو ومترجم روايتي إلى العبرية وناشرها، إلى البيت الذي ولدتُ فيه، أو البيت الذي نسجتُ منه وحوله، ومن الطرق الوعرة التي تقود إليه، أطرافاً من حكاياتِ أمّي، وبها دخلتُ أنا وأمّي هذا العالم الذي كان يجهلنا إلى حين، أي إلى حين كبر الطفلُ وتحدث، وتحدثت الكائنات.
لاأدري بالضبط ما الذي يحاوله. ربما يحاول بإشارة يده إقناع ناشر الرواية الذي يتطلع حوله كأنما يدخل مسرحاً لأول مرة، بأن هذه رواية حقيقية، أو ربما ليتأكد هو ذاته من أن خيالي لم يخن نواياه الطيبة، وأنني ولدت هناك فعلا.
إلى يساره يقف ديفيد غوتسمان الناشر الشاب الذي قرر بينه وبين نفسه أن هذه حكاية مؤثرة ويجب أن يقرأها الإسرائيليون، عرباً وأكراداً وألماناً وبولنديين وروساً وفرنسيين وأمريكيين... إلخ، مفكراً بغوامض مستقبلٍ ستعود فيه هذه الحكايات الغائبة ذات يوم، وتتغير عادات القراءة، ويظهر أطفالٌ يسألون عن أصحاب الأرض الذين طمس أباؤهم أسماء وظلال قراهم، ولم يحتفظوا إلا بأشباحهم لتذكرهم دائماً بأن سكان الجحيم هؤلاء لن ينسوا جنتهم التي طردوا منها.
ها هو الرجل الثالث الممتلئ المائل للقصر، يورام ميرون، أستاذ اللغة العربية العجوز الذي فوجئ حين بدأ يقرأ النص أنه يتحدث عن صيافير وأهالي وكروم قريةٍ مألوفةٍ. وتذكر مذهولا أنه زارها طفلاً مع أطفال مدرسته، وتعرف عليها حين كانت معصرة الزيتون والحصان الذي يدير حجرها الضخم هي الأعجوبة التي جذبت نظره؛ إنها أم الزينات ذاتها. هذا لاشك فيه. وكانت قبانيته، أو الكيبوتز بتعبيره، تجاورها، هي الطائرة في خيال سكانها القادمين من ألمانيا، لتحط كما في الحكايات الخرافية بجوار أم الزينات القائمة منذ أزل لا يسبر غوره.
لا أعرف ماذا قال الناشر تحديدا أو ماذا انبعث من ذاكرته، ربما انبعثت حكايات أمه عن شتيتل صغير خارج أسوار كراكوف وهو يقرأ عن قريتي، ولكن يورام فكر بي بالفعل وقال: "لعلنا التقينا حين زرت أم الزينات في طفولتي، ولعلنا تبادلنا النظرات المتوجسة أو نظرات اللامبالاةِ. كان الفلاحون سكان هذا الكوكب لا يثيرون حب الإستطلاع بقدر ما يثيرون سخط ولعنات الحاخام الألماني الذي زودنا بنصائحه قبل أن نهبط إلى هذا الوادي".
أياً كان ما فكر فيه ديفيد أو يورام، إلا أن أسماءهما الغريبة القادمة من أماكن مظلمة لم يدخلها النور إلا حين امتد بنا العمر، وقرأنا قصصاً بلغة اليديش والألمانية والروسية عن فقراء كييف والقرم وحي النهضة في صوفيا، وشاهدنا صور لابسي القبعات السوداء في شوارع برلين وقصص غروسمان، بدأت تتخذ هيئاتً مألوفة، وها هي تبدو ودودة وهي ترافق بقايا بيتي، وتحيط بها ظلال كرومنا وصخور جبلنا. وبدا لي أنهما، وهما يدخلان الصورة، يتخليان عن غرابة اسميهما، وأنهما ينتظران مني، أنا اللاجئ، أن أبارك هذا الدخول وامنحهما أسماءً أليفة وحميمة كما يمنح راهب المعمودية أسماءً للمولودين حديثاً. وأتساءل: من الذي ينتظران أن يقوم بطقس العماد في هذا الظل؟ أنا أم الفحماوي اللاجئ أيضاً ولكن في الدالية القريبة حيث استضافهما قبل الهبوط بهما إلى أنقاض قريتي؟
ها هو الفحماوي، الرابع في الصورة، ومازلتُ أسمعه يقول لمن حوله بعصبية ظاهرة، وعدسات مصوري الفضائية مشغولة بالتقاط صور جموع من أهالي أم الزينات في حجها السنوي إلى بقايا بيتها، نساءً وأطفالا وعجائز وشبانا مستثارين بالحدث: "هنا كانت مدرستي التي تعلمتُ فيها"، بينما تطل امرأة وزوجها المسن إلى يمينه على فوهة بئرٍ تشق قاعه شجرةُ تينٍ لا يظهر منها سوى غصن ببضعةِ أوراق عريضة، وتتطلع شابتان ببناطيل جينز في خلفية الصورة إلى ما وراء صف من أشجار الصبر على جانب طريق، إلى العتمة والزيتون المتشابك، وتميل إحداهما وتلتقط شيئا، ربما كان حجراً أو كوز صنوبرٍ يابس. كان الوقتُ ظهرا، لأن الكثيرين فضلوا الجلوس تحت ظلال السرو مغمورين بالظلال وشذراتٍ من ضوء الشمس، وإحساس أنهم هنا مرة أخرى.
يقول الفحماوي لضيوفه الثلاثة: "... وهذا هو بيت محمد. أنا أعرف مكانه، وسأعرفه حتى لو عرشت عليه غابةُ صبرٍ وغطاه البلان". ثم يلتفت ويشير إلى إتجاه معاكس لإشارة يوسف: "هناك في الأعلى مقبرتنا. يارجل، توفي والدي وأوصى أن ندفنه فيها، فوقفوا في وجهنا، ودفناه في ساحة البيت في الدالية!"
وأقول واثقاً أنه لا بد سمعني أو سيسمعني: إنهم يخشون عودة الموتى، أو صدى الذاكرة. إنهم يذكرون جيداً كوابيس أيامهم الأولى في قرانا الخالية حين جاؤا بهم من المغرب والعراق واوكرانيا وايران ليسكنوا بيوتاً لم يبنوها وأرضاً لم تطأها قدم سلف من أسلافهم، فأحاطت بهم الكوابيس؛ كوابيس الفلاحين الذين قتلهم جنودهم في مضافاتهم وعلى أبوابِ بيوتهم وفي طرقات قراهم وبين صخور الوعر وخلف السناسل الحجرية، وهم يسمعونهم ينتحبون ليلا، أو يصرخون، أو يلقون بالحجارة على السقوف والنوافذ، فيتهامسون في الظلام مذعورين: "هم لن يتركونا بسلام". وأضيف، وأنا أحدق في خلفيةِ الصورة، في ظلال الخروب والسرو ونور الشمس الذي يلتقط استدارة الحجر وعتمة التراب: "أعتقد أن هذه الكوابيس تلاحقهم حتى اليوم، وهي التي تجعلهم يبتعدون عن قبورِ آبائنا وأجدادنا وإخوتنا الصغار، ويتركون حجارة قرانا وحيدة مثل نجوم السماء، نائيةً وبعيدة، آملين أن تمحوها الزوابع والأمطار، أو يهبط الشيطان ويأخذها ويريحهم منها ويمنحهم السلام الذي ينشدون في هذه الأرض الغريبة".
* * * * *
ها أنا أكاد أقول الحكايات كلها دفعةً واحدة منذ السطور الأولى. ولكن... لا... حين تبدأ الحكاياتُ تفتح أبوابها، ولن تغلقها أبداً، حتى وإن خرج منها أصحابها، وظلت تتردد في أرجائها الريح وظلال الشجر وأصوات العصافير، وتتسلق سناسلها أزهار الخبيزة والخرفيش، وتتلبث في زواياها أصواتُ الصمت، ولا تمنحها الصباحات الغائمة سوى الدموع .
هؤلاء الزائرون في الصورة زوارٌ جددٌ، وسأنتظر قادمين آخرين بالآلاف. أنا واثقٌ من أن هذه البقعة الظليلة أودعتها حياتنا وحياةُ أسلافنا من الفلاحين سرّاً عجيباً حتى وإن كان الناسُ لا يعلمون. وإلا من يستطيع أن يفسّر لي هذا النداء ونداءاتٍ أخرى شغلت الغازي وجعلته يقرّر بينه وبين نفسه أن يتتبع آثار أهلي بعد أن أمسك بطرف الخيط من روايةٍ ترجمتها قبطية مصرية، واقترحت عليه قراءتها ناشرة فرنسية؟ رواية كاتبها إنسانٌ لم يصادفه في طرقاتِ الاسكندرية حين كان يتردد على دكان والده، ولا في الكيبوتز الذي أخذوه إليه بعد هجرته إلى فلسطين وحيداً، ولا في مظاهرات رفاقه الشيوعيين في حيفا؟ إنسانٌ فوجئ وهو يقرأ سطوره أن ما يقرأه شعرٌ خالص، والأكثر أهمية أنه لايكره أحدا حتى ضابط الهاغاناه الذي نسف بيوت قريته وقتل جنوده فلاحيها بناءً على الأوامر، والأوامر وحدها: لا عربي... لا حجرا على حجر.
ــ لا كراهية في روايتك !
هذا هو ما قاله الغازي حين التقينا فيما بعد. وسيسألني ونحن حول طاولة حوار في بيت لوك الريفي في "جنت" في قلب غابات الفلاندر: "هل سبق وأن زرت أم الزينات؟" وسيدهشني سؤاله لأنه يعرف تماماً أن اللاجئ الفلسطيني لا يستطيع الوصول إلى قريته المدمرة في العام 1948، سواء أكان لاجئا حتى الآن بين صخور الكرمل يتطلع إلى الغرباء يحلون في قريته مثلما يتطلع الآن أحفاد وأبناء أبو الهيجاء من عين حوض، أم كان محمولا في شاحناتِ الجيش العراقي المنسحب من جنين تتداوله آلاف الأيدي والعيون وترميه جانباً في بيوت نصف خربة في أحد أحياء البصرة ذات الشناشيل والنهر وغابات النخيل. وسأقول: "لا بالطبع. كيف يمكنني أن أزورها؟"، فيرد وهويتنفس بعمق: "ولكن العجيب أنكَ تصف الشجر والوديان والسناسل والصبر بين بقايا البيوت كما لو كنت هناك فعلا!"، ثم يلتفت إلى فرانسواز، محاورتنا: "إنها كما تخيلها بالضبط!".
وأقول بيني وبين نفسي: وكما تخيلتُ تلك الكهوف التي نقبت فيها غرود قبل ميلادي، وكما تخيلتُ الندى أيضاً، ذلك الذي بلل شعر أخي وهو ينطلق إلى مدرسته في الصباح الباكر، والذي يصلني الآن رطباً كما كان، نقياً على أطراف السريس، منتشراً بين ظلال الخروب المحيطة بالواقفين في الصورة، وفي الالتماعة التي يلقيها ضوء الشمس على وجوههم وثنايا ملابسهم وأطراف الصخور الظاهرة تحت أقدامهم، وفوق عتمة التراب حيث تلتمع أوراقُ الأعشاب وبضعة أزهارٍ برية، أزهارٌ ما زالت تعود إلى الظهور في غيابنا منذ خمسين سنة، ولا تعرف شيئاً عن الفرح الغامر الذي يملأ أرواحنا ويتسلل إلى حكاياتنا حين نراها في الصور وبين الكلمات.
* * * * *
توفيت الراوية، راوية حكايتي، أعني أمّي، بعد سنتين أو ثلاث فقدت فيها ذاكرتها إلا من ذكرى أبنائها الثلاثة؛ ذلك الذي أصابته الرصاصات اليهودية ذات ليلة في طريق عودته إلى أم الزينات الخالية، وذلك الذي خرج صغيراً إلى روما لإستكمال دراسته ثم ارتحل إلى ليبيا وضاعت آثاره، وذلك الذي هو أنا، بعد أن مرّ بها عابراً من الكويت إلى العالم الشاسع إلى حيث لا تدري. كانت تستيقظ أحياناً، كما قيل لي في ما بعد، في ذلك البيت الصغير من بيوت البصرة القديمة على أطراف الصحراء، فتسأل عنا، لا تستثني الأحياء منا ولا الأموات، مرتعبة من أصوات رصاصٍ وهدير طائراتٍ في خيالها وأحلامها، فيهدئ الجالسون حولها من روعها؛ محمد بخير، وموسى، وكذلك أسعد الذي يعتقدون أنها نسيت أنه توفي قبل خمسين سنة. فمن الأفضل أن لا تعرف، وتظل مؤمنةً أن أبناءها المنتشرين في أماكن تجهل أسماءها مازالوا أحياء على وجه الأرض، وتحت هذه السماء ذاتها التي تراها كلما تطلعت ليلاً إلى فضائها الشاسع.
توفيت الراوية إذن قبل أن تعرف أنها دخلت الحكاية، أو صارت حكايةً كما كانت تتمنى، وقرأ آلاف الناس كلماتها، وعرفوا ملامحها وأسماء الأماكن التي شهدت طفولتها وصباها، وشاهدوها بين الصيافير تحدث نفسها أو تصغي للنسيم العابر بين أشجار الزيتون، وقبل أن تعرف أن أحجار بيتها تظهر أمامي الآن في الصورة، ومعها تظهر أشجار الخروب التي طالما حدثتني عنها، ويظهر الصبر والحاكورة التي ألقى فيها العم محمود بندقيته العتيقة وشاهده الإنجليز، فهبطوا من المرتفعات وأخذوها وأخذوه وأبي إلى سجن حيفا. وأشعر بالأسف لأنني لم ألتقط كل شيء تقوله أو تهذي به، وغابت عني أماكن كثيرة ووجوه كان يمكن أن يعرفها القارئ الفرنسي والإنجليزي والعربي واليوناني والبرتغالي، وكل الذين بدأوا يتصفحون حكاية أطفال الندى، بما فيهم قراء العبرية؛ الغامض منهم القادم من غيتوات أوروبا الشرقية، والواضح منهم، ابن البلد، الذي كانت تسميه "من يهود بلادنا".
وآسف أكثر لأنني لم أجلس إليها كما كنتُ أرغب، فأقرأ لها فصولاً مما كتبتُ، ولأراها تبتسم أو تعبس أو تتولاها الحيرة، وأترك لها فرصة أن تصحح ما يمكن أن يكون انضم إلى ذكرياتي غائماً أو متخيلاً، وفرصةَ أن تعلّق، فتضيف لوناً هنا أو صوتاً هناك، أو تترك فراغاً موحياً بين السطور، وفرصةَ أن تصل حكاياتٍ كثيرة بالزمان، حكايات لم ألتقط إلا بداياتها؛ مصائر كرومٍ ربما تكون اختفت من الوجود، أو نساء لم تقدمني إليهن تقديماً كافياً، أو رجال عرفت ملامحهم كما لو إنهم في صورةٍ جانبية لطيورٍ بعيدة على شاطئ بحرٍ، أو عصافير تطير أسراباً بلا ملامح خاصة لعصفور واحدٍ منها.
ولكن أمّي، قبل أن تفقد ذاكرتها، غيرتني، حوّلتني إلى راويةٍ من دون أن تدري. وأتساءل الآن، وأنا أراها تتراءى وراء الرجال الأربعة في الصورة، وتجلس في الظل تحت شجرة في عمق المشهد، وتضع يدها على رأسي، أنا الذي لا أتخيل نفسي إلا مجاوراً لها، في البيتِ وبين أشجار الزيتون وفي الطريق إلى الدالية ليلاً حين كان الرصاص جمراتٍ حمراء تتوالى في السماء السوداء: هل من المعقول أنها لن تكون معي حين أعود أو يعود أحفادها؟.
ستكون سعيدة الآن مادامت حكاياتها وأحاديثها بينها وبين نفسها لم تتحول إلى دخان موقد، ولا ظل موقدها بلا حطب، ولا ظلت مثل نحلة سجينةٍ في قارورة، وما دمتُ أنا نفسي أصبحت راويةً أيضاً، أستطيع أن أقص حين يسألني أولادي عن تلك الأيام، فتترقرق الدموع في عيني أناهيد كما كانت تترقرق في عيني وأنا أصغي لأمي، أو ينفعل غسان صامتاً ويدير عينيه جانباً، تماماً كما كنت أفعل حين يتولاني شعورٌ غامضٌ بأنني أحد الأبطال الراحلين في حكايات أمّي.
يبدو أنني أصبحتُ راويةً بالفعل. فأنا لم أعد أستطيع الحديث إلا متنقلاً بين مصير الراوية وروايتها، وبيني وبين ما أروي. ويثيرني أن الكلمات لم تعد أصواتا تتلاشى مع طلوع النهار، بل شرود أناسٍ وحسراتهم وأفراحهم وبلادهم وحقولهم، والأثلام التي حفرتها دموعهم في أرواحنا. ولربما خطر لي أن أسأل ذات يوم: ترى من أكون؟ هل أنا أم الزينات؟ هل أنا أمّي؟ هل أنا كومة الأحجار هذه؟ أم أنا نسماتٌ تمر بين أشجار الزيتون، وصوت هذه البيوت المهدمة والمقابر التي نثروا حجارتها والمآذن الخربة والقباب والأشجار المهملة التي كانت قرانا؟.
* * * * *
عبر الهاتف يجيئني صوتُ ميشيل بيتيت من باريس بعد أن وصلته قبل أيامٍ قليلة صورةُ حجارة أم الزينات وسروها وأعشابها، وهي تطل غرباً على سهول ومرتفعات خضراء تنتهي ببحرٍ غائم يلوح في الأفق:
ــ كنت أعتقد أن بلادكم صحراء... ولكن ها هي شجر وخضرة وصخور... مشهد يماثل ما عندنا في أوروربا!
فأقول: " لم تكن بلادنا صحراء في يوم من الأيام ياصديقي، إنها من بلدان حوض المتوسط. ألا تعرف الكرمل؟"
كانت الصورة بين يديه باقتراحٍ مني حين طلب الصديق عبد الله العتيبي أرسال الرواية إليه، فقلت، وارسل هذه الصورة أيضاً حيث كانت الأحداث وكان الناس ذات يوم، دعه يشاهدها.
وتردد ميشيل قبل أن أسمعه:
ــ آسف... لم أكن أعرف هذا... أين قلت لي موقع قريتكم؟
ــ على قمة الكرمل، الكرمل المطل على حيفا
ــ إذن... على العودة إلى الخرائط... سأستكمل معلوماتي. هذه الصورة لوحة رائعة... سأضعها على جدار غرفتي.
حدث هذا بعد عودتي من جنت البلجيكية، وبعد السجال الطويل بيني وبين الغازي تحت سمع وبصر لوك وفرانسواز طيلة خمسة عشر يوماً، وفي المنزل الريفي البعيد في سهول الفلاندر.
وتساءلتُ وأنا أعود إلى الصورتين؛ صورة سرو أم الزينات يطل على الساحل الغائم، وصورة الرجال الأربعة بين الظلال: "هل نحن مجهولون إلى هذا الحد؟ إذن ماذا كان يفعل كتابنا وشعراؤنا، ضيوف المهرجانات الباذخة والمؤتمرات والسهرات، في العواصم الغربية؟ ألم يأخذوا صورنا وصور قرانا معهم؟ ألم يحملوا ملامحنا؟ أم أنهم ألقوا بنا في الظلام قبل دخولهم من بوابات الحدائق الغربية. من المؤكد أنهم لو لم يفعلوا هذا لما التقطتهم عدسات التصوير وأعمدة الصحف، ولظلوا مجهولين كما هي مجهولة فيافي الصحراء".
وجاءني هذه المرة صوت فرانسواز. لقد شاهدت في بروكسل فيلم بوابة الشمس، فذكرها بكل ما حدثتها عنه في ذلك البيت الريفي، ذكرها بالفلسطينيين الذين اقتلعوا من قراهم، بتدمير البيوت، بقتل النساء والأطفال ورجال الفلاحين في بيوتهم وعلى الطرقات وفي الأسواق. كانت مستثارة تود القول "كم كنتَ صادقاً!"
في مساء ذلك اليوم الذي تحدتثْ عنه، كان عليها الإنتقال من جنت إلى بروكسل بصحبة لوك وسيارته الصغيرة ومشاغله هناك مع الفلامش الذين لايحبهم كثيراً، ولكن هذه الساعة التي استغرقها الطريق انتهت بأن أعادتها إلى سجالنا مرة أخرى، وإلى تلك الرواية فاتحة السجال، سجال عودتي، أنا والغازي، إلى زيارة حياتنا الماضية، أحياناً كلا على حدة وأحياناً مترافقين. هو يبدأ من إطلالته عبر نافذة بيت أسرته في الإسكندرية على الشارع ورصاص الإنجليز ينهال على المتظاهرين، وأنا من شعوري أن أحدا ما حملني على كتفه وانطلق بي تحت غطيطة الفجر بين صيافير الكرمل في تلك الليلة؛ ليلة الهجوم على سناسل أم الزينات واحتلالها.
وانتهت الساعة نحو بروكسل بأن أعادتني إلى شيء منسي وضائع لم أفكر به قبل هذه اللحظة: إذن مر أكثر من خمسين سنة من دون أن يرسل فلسطيني صورة قرية من قرانا إلى إنسان يعيش هناك في أوروبا. كم أنا ممتن إذن للياس خوري صاحب بوابة الشمس! لقد أقام صلة ً بين أوربية وفلسطيني قال ما قال وهي تنظر إليه بين مصدقة ومكذبة.
كان علينا أن نرحل فوق هذه الدروب أيضا؛ في حقول القرى الأوروبية، وفي شوارع عواصمها، ونستمع إلى ضجيج ميادينها، أو نقف على ناصية شارع من شوارعها ونقول حكايتنا. لا أحد قال هذه الحكاية كما يبدو، والآن... الآن فقط، يمكن أن أهبط كما هبطتُ ذات أمسية، في ضيافة عجوزين، امرأة وزوجها، يذكّران بأقزام حكاية قطر الندى في الغابة، ويدور حديثٌ عنا، نحن المجهولين طيلة كل هذه السنوات، والآن... الآن فقط... سيعرفون في أمسياتهم وشوارعهم ومكتباتهم ومطاعمهم من نحن، سيعرفون حكاية "جبينة" الأثيرة عند أمـّي وأخواتي، وسأعرف أن عليّ أن أواصل الحكاية.
محمد الأسعد / ناقد وروائي فلسطيني - الكويت
malhardan@hotmail.com