' إلى أبي' –
فيلم جديد للمخرج عبد السلام شحادة, غزة
بقلم سامي أبو سالم*

'إلى أبي' فيلم جديد للمخرج عبد السلام شحادة، من إنتاج وكالة رامتان للأنباء (2008)، يقدمه في ما أشبه بتوقيع لأعماله السينمائية المتميزة، ويستعرض فيه 'فوتو-بيوغرافيا' عبر مراحل الزمن الجميل وآلام الحبالضائعة في غزة، ويدعو للبحث عن الجمال والحب.
بساطة و'حلاوة الدنيا' التي يتسلل بها سيد مكاوي إلى آذان المستمعين من اسطوانة مهترئة تدور مصطحبة معها صور شخصية (portrays) بالأبيض والأسود لفتيات وشبان وأطفال وصور للطبيعة في غزة داخلبراويز مهترئة، يدخل من خلالها المخرج شحادة إلى قصته المصورة، وعلاقته بالكاميرا التي يتخذ فيها من عام النكبة 1948، تاريخاً مفصلياً لها، ذلك التاريخ الذي بات الشعب الفلسطيني من بعده مجرد حكايا وصور أصبحهو أحد أبطالها بالفطرة.
صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وعبد السلام عارف وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وآلان ديلون (ممثل فرنسي) وغيرهم من الزعماء والثوار والمطربين والممثلين العرب والأجانب، كانت طابع البريد المشترك علىالأغلفة الداخلية لبيوت غزة. وكانت بمثابة تاريخ لغزة وتفاصيلها.
ثلاث وخمسون دقيقة من نوستالجيا فوتوغرافية بالسرد العامي، يبدأها شحادة مصطحباً موسيقى لعودة الترجمان، في توحد بينه وبين الكاميرا والصورة التي باتت جزءاً من التكوين البيولوجي الفطري له. فالمرأةالجميلة ذات العيون الناعسة والشعر المدلى التي كان يرقبها المخرج في كل صباح في طفولته لم تكن سوى الكاميرا الخشبية التي عُرفت باسم 'كاميرا المية'.
لم تغب رائحة (الحسرة) على الحب الذي كان سائداً بين الناس في الأيام الخوالي في السرد باللغة العامية لعبد السلام شحادة، وكأنه يندب الكره الذي حل مكانه في غزة والذي امتد إلى تفاصيل النسيج الاجتماعي وأرهقالأمهات والشبان، 'كنا نحب بعضنا كثيرا، كان الأستاذ يحبنا... نتجمع حولين الأستاذ ...نضحك، كنا نضحك كثيرا... كانت أيامها الصور جميلة والحياة أسهل.'
صور عشرات الأطفال التي يسقطها المخرج على السرد التقطها الحاج سلامة وإبراهيم حرب في مدارس وكالة الغوث للتلاميذ ما زالت حية، والابتسامات البريئة ما زالت تعكس حميمية وحبا باتت جزءاً من الماضي: 'كتير كنا نتصور على البحر.... الناس ما كا نت خايفة من بعض... نلعب ونجرى ونغني ... ما كنا خايفين.'
لم يخفِ شحادة خوفه على الجغرافيا والمكان الذي اعتمل بلحظات البراءة والحب، وبعيني زرقاء اليمامة يتلمس شيئا كان يهمس في أذنه أن هذه اللحظات لن تطول، فأنت كفلسطيني ليس من حقك أن تفرح، وإن فرحتفرحاً عابراً فسيتغير بيد الاحتلال أو بأيدينا.
كما يندب المخرج الجمال الذي غاب عن عيون الصبايا في غزة، والعيون 'الخضراء' التي كانت تحظى باهتمام واحترام خاص من الناس الذين كانوا يولونها مكانة خاصة بينهم. أما الآن فقد اختلفت المعادلة، فقد أصبحاللون الأخضر 'أو الأزرق' محط نفور، وكأنه احتجاج حذر من المخرج على اللون الأخضر، 'زمان كانت اللي عينيها خضرا ولا زرقا تتجوز بسرعة مش عارف هالأيام شو اللي تغير الكاميرا ولا العينين'، ليختم احتجاجهعلى اللون الأخضر بمقطع للعندليب الأسمر 'العيون السود، رموشهم ليل'. كما يندب شحادة الانقلاب الذي طرأ على حياة الناس وسلوكهم الذي بات أقل شأناً من الجماد، 'كنت أشوف الناس مقلوبين اليوم الناس عدلين عَالكاميرا بس للأسف في الحقيقة تغيروا'.
كان أشبه بوفاء من المخرج للحاج سلامة، أشهر المصورين في مدينة رفح آنذاك، الذي علمه كيفية استخدام الكاميرا، وكيفية التقاط الصور، ليصبح بعد ذلك 'مصور الأعراس في الحارة' ويفجر عنده طاقة مختزنةقادته لصناعة أفلام حاز من ورائها على جوائز عالمية.
بين أزقة مخيم رفح، مسقط رأس المخرج، تقودنا الكاميرا إلى استوديو الحاج سلامة الذي اكتست جدرانه بالعيون والجمال المكتنز في الصور، والذي أيضاً لا يزال يعيش كناسك بين تلك الصور التي يستحضر بهازوجته، 'يا سلام يا حجة فتحية، باقية حلوة'. وفي داخل الاستوديو يمسح المخرج الغبار عن صورة لطفلة عيونها مفعمة بالأمل، فيما بدا وكأنه إصرار على بقاء الأمل رغم طبقات الغبار التي غطته.
زلزال 1967 (حرب حزيران) قلب الأرض والصور، ومزق 'قصة حب مجوسية' بين المخرج والكاميرا تمتع فيها الراوي بحب ودفء وإنسانية، وفتح أخاديد وخنادق في ذاكرته وواقع الأرض والشعب. ففي حربحزيران باتت الصورة هي مصدر الخوف والرعب، فصور الرئيس عبد الناصر وعبد السلام عارف ألقيت في حفر وأُحرقت، وكذلك صور أحبتهم الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية، أو أولئك الذين خرجوا ولم يعودوا. نيرانتلتهم الصور، وأخرى تلتهم الجمال، وثالثة نهشت قلوب الأمهات اللواتي فقدن أبنائهن في نكبة جديدة، فأبو عزوم يبحث عن أولاده وأبو سمير اختفى وأخت شحادة استبدلت ملابسها بثوب أمها، أما أخاه الأكبر فلم يعدباستطاعته العودة ليسجل ضمن (النازحين)، أما جدته فتوفيت وهي بانتظار ابنها 'غودو'، كذلك أم أشرف التي اشتهرت بتلوين البيض في عيد 'شم النسيم' أيضاً غابت، ولم يعد أحد يلون البيض أو يشم النسيم.
الرعب الذي بثه الاحتلال الإسرائيلي بين الناس جعلهم يتخلصون من صور أحبتهم وأبنائهم وكأنها وباء أو نذير شؤم مثل 'الغولة' و'أبو رجل مسلوخة' اللذين انتشرا في الشوارع بعد الاحتلال الذي أخذ يقتحم المنازلويعتقل 'على الصورة'.
مواطنون يهرعون في الشوارع على غير هدي، أم تبحث عن زوجها ورجل يبحث عن أمه وأفراد من العائلة الواحدة يبحثون عن باقي أفراد العائلة. اختفى الجنود والضباط المصريون من الشوارع، وعاد أشرف، ابنالضابط المصري، إلى وطنه دون أن يودعه.
استبدل الاحتلال الصور الدافئة وصور العيون السوداء وضحكات الأطفال، بصور قسرية أكثر من مرة في إجباره للمواطنين باستخراج هويات جديدة، واحتلت الأشباح مكان ضحكات الأطفال، فمحطة القطار التيتصل من مصر باتت خاوية، لم يعد أحد ينتظر آخر هناك، شتات جديد يلخصه الحاج سلامة بالإشارة إلى أن من التقط صوراً لهم ذهبوا الآن إلى الأردن ومصر والسعودية، وبالطبع غيرها، إلى غير رجعة.
بعد أن وضعت حرب حزيران أوزارها، واستفاق المواطنون من الحلم، يحاولون لملمة أشلاء ذكرياتهم وشمل عائلاتهم التي تشتت بفعل النكبة الثانية، لم يكن هناك وسيلة سوى العودة إلى الصورة، والكلمة المكتوبة،التي كان يرسلها المخرج (والمواطنون) إلى أحبتهم في الخارج-الشتات.
يفترش الطفل عبد السلام الأرض بين إخوته ليخط رسالة على نور مصباح الكيروسين، إلى أخيه الأكبر الذي فصل زلزال 1967 بينهما، تملي عليه أمه المفردات المفعمة بطعم أمومة مشتاقة إلى ابنها، وتطير عبرالبوسطة، علها تصل إلى حبيب في بلاد غريبة بعد أن تخترق حواجزاً وحدوداً ازداد عددها بعد وصول الغرباء، لينتظر الفتى ردا من 'عند الحبايب' يطول انتظاره من 'عصفور الجناين' الذي تشدو به فيروز.
هذا الألم الذي سببته نكسة 1967، وما تبعها من تمزق وجوع وضياع، لم يظهر للعالم بالشكل اللازم، وفيما بدا وكأنه احتجاج على ليّ عنق الحقيقة، يستذكر المخرج الصور التي بدأت تظهر على صفحات الجرائدوالمجلات العالمية، التي تُظهر الفلسطينيين أنهم يعيشون حياة لا بأس بها: 'وكالة الغوث عملتنا صور ووزعتها، صرنا نشوف حالنا في المجلات وفى نشراتهم لابسين كويس وبنندق إبر وبنتطعّم وبنشرب الحليب وحبوبزيت السمك، وكانوا بٍرشّونا (بودرة أدوية) كويّس.'
نوستالجيا المكان لم تنفصل عن الفصول الأربعة، ففصل الشتاء له ذكريات بطعم آخر، جعل الراوي يكره الشتاء، فبعد أن كان يجري ويلهو دون خوف لأنه 'في يد تمسكنا' إذا وقع، اختلف الحال بعد الزلزال، فالتوترالذي رافق الفصول الأربعة كانت تشتد وطأته في الشتاء لارتباطه بالاحتلال: 'كنا لما نشوف دورية جيش وِلا رجليّة داخل المخيم نشرد ونتزحلق على الأرض المبلولة، وياما تزحلقنا.'
يصحو الراوي من موجة الخوف والجبن التي سيطرت عليه بعد حرب 67، ليتسلح بالكاميرا التي طردت الخوف من قلبه بعد أن جسرت المسافة المادية والمعنوية مع جنود الاحتلال، واتخذ منها باباً منفتحاً يتنسم منخلاله رائحة الحرية، 'صرت أبحث عن حريتي في الصور... وتعرفت على الاحتلال أكثر، شفت الجنود كويس كانوا بجروا بطخونا زي ما بكونا في حفلة صيد'.
يمر شريط صور انتفاضة 1987 التي غلبت عليها رائحة المطر وإطارات السيارات المشتعلة، والغاز المسيل للدموع في أزقة المخيم. رافقه هدير المروحيات ومكبرات الصوت الآمرة بمنع التجول بأمر من الحاكمالعسكري (الإسرائيلي)، وهنا يبدأ تسلل صور الفيديو التي بدأت تزاحم وبقوة الصور الفوتوغرافية الملونة.
يعود الأمل ثانية بعد توقيع اتفاق أوسلو، ودخول أول عربة عسكرية فلسطينية عبر معبر رفح، ابتسامات عريضة، قلق وفرح وخجل وفخر خيم على العسكري الفلسطيني الأول الذي دخل معبر رفح. الزغاريدوالتصفيق والأغاني وحلقات الرقص نُظمت بشكل عشوائي في شوارع القطاع وأمام المعبر، عيون فرحة وعيون حائرة تبحث عمن لم تكتحل برؤيتهم منذ عشرات السنين.
رجل يسأل عن أخيه (غودو)، وأم تسأل عن ولدها، وطفل وُلد في غزة، اشتد عوده اليوم ليسأل عن والده، وباتت تظهر التصنيفات الملاحقة للفلسطيني في كل مكان على وجه البسيطة، مهجّر من 48 أم نازح 67؟الترحاب من كل المستقبلين لكل القادمين، فكلهم إخوة والفرحة غامرة، وكل من عاد هو ضيف عزيز.
تنقل الكاميرا (الفيديو) لحظات الأمل والجمال في غزة، عناقيد العنب تتزاحم في كروم غزة، وضحكات الأطفال تملأ الفراغات بين الأشجار في المتنزه الرئيس، وألعاب نارية تلمع في سمائها التي اعتادته مظلماً.طيور مغردة سعيدة بلازورد البحر الصافي، وعلم أنيق يغازل شمس الأمل التي تُسقط أشعتها في الصباح على الأبراج السكنية الجديدة.
تقودنا الكاميرا إلى انتفاضة الأقصى (2000)، يبدأ زلزال، بل بركان جديد يحرق كل أوجه الحياة، نيران تلتهم عناقيد عنب الشيخ عجلين الذي تشتهر به غزة، صواريخ تدك منازل المواطنين وبيوت تسوى بالأرض،والإنسان من قبلهم بات مجرد صورة على حائط أو جدارية تهترئ مع مرور الأيام لتختفي عن الأعين وربما القلوب.
الرعب يملأ الأمكنة والنفوس، والكاميرات أيضاً، يغيب الجمال مرة أخرى مصطحباً معه صانعيه، ويكف المصور عن وضع رتوش، فلا داعي لها بعد أن أصبح الدمار والموت هو سيد الموقف، وصور الشهداءوالأسرى هي الصور الوحيدة التي تلاحقنا في كل ركن وكل شارع وكل بيت، عاكسة الواقع التي 'زاد الاحتلال من بشاعتها'.
كذلك تشوهت الصورة بغياب الأوجه والعيون والابتسامات الجميلة التي حلت محلها الأقنعة، تلك الأقنعة التي كان لها دور في خلط الحابل بالنابل، ففيما بدا وكأنه همز ذكي للاقتتال الداخلي، تتكرر صور اللثامبأوضاع وأشكال مختلفة لتخلق لغطاً بصرياً لدى النظارة... 'صارت لتامات على وجوهنا مش عارفين حالنا بطلوا عارفينا وبطلوا عارفين حالهم...كمان مرة بتصير الصور مش مفهومة مش واضحة والملامح كلها بتّوه.'
هذا التيه الذي أسال دماءً وسكب دموعاً وأخفى ابتسامات بريئة، يأمل المخرج منه ألا يعود، وألا يتكرر، وأن تختفي الصورة 'النيغاتيف' كي يصعب استحضارها في أزمنة كوليرا مختبئة وراء أقنعة من نوع آخر.
'flash back'، يعود المخرج من خلاله إلى مشهد من فيلم 'الأيدي الصغيرة' الذي أخرجه عام 1996، فهذا الطفل علاء الدين الذي حلم بأن يكون بحاراً كبيراً، تنخرط صوره في مهرجان الصور العبثي، وتُلصق علىالجدران، كغيره، قبل أن يلتقطها شحادة له يوم زفافه.
لعنة أخرى من لعنات الصور التي باتت تلاحق الفلسطيني في تفاصيل حياته، فحمل جواز السفر يرتبط ارتباطا شرطيا بالألم المرتبط بالكاميرات التي نصبت في كل زاوية في طريق الآلام (معبر رفح)، ترقب العيونوكل شيء عدا آلام المسافرين والأطفال والمرضى الذين يموتون في انتظار جرعة دواء أو شغفا لرؤية الأحبة على الجهة الأخرى.
يعود المخرج إلى استوديو الحاج سلامة المتهالك، اختفى الأمل باختفاء صورة الطفلة ذات العيون الواسعة، واختفى الجمال باختفاء العيون السود، باتت الجدران خالية إلا من تشققات تشكو الوحدة، وكأنه إشارة إلى آلامالحب الضائع من مجتمع أثخنته جراح الكراهية والقبح الذي أصبح جزءاً من حياتنا في هذه الآونة.
التوحّد بين الكاميرا وعاشقها، بين الجمال وصُنّاعه بات جليا، فالكاميرا كُسرت إحدى أعمدتها الثلاثة، والحاج سلامة فقد ساقه، حاله مثل حال أبو إبراهيم صليبا الذي بقي حاضناً لها 36 عاماً، ثم فقد ساقه في شباط/فبراير 2008. مشهد لم ينبس فيه أبو إبراهيم صليبا ببنت شفة وهو يجلس على الكرسي المتحرك يناجي بعينيه معشوقته الكاميرا، فيما يشبه بكاء على أطلال يمامة حزينة. كذلك إبراهيم حرب، عاد 30 عاماً إلى الوراء كأسعدإنسان على الأرض بعد أن عاد إلى حبيبته بعد فراق، أما عبد الملك الأستاذ، فقد مل من الصمت الذي بات رفيقه الوحيد داخل الاستوديو، كما مل المكتب من قدميه الممددتين على اللوح الزجاجي، بعد أن فقد القدرة على العطاءالجميل: 'أنا أعتقد انه في ناس في البلد بحبوا الصور، في بس أنا ما عندي القدرة فِشّ من جوايا العطاء.'
هذه القدرة أيضاً فقدها المخرج، بيد أنه ما زال يؤمن بالأمل في عيون الطفلة ذات العينين الواسعتين المفعمتين بالأمل الذي يستطيع من خلاله أن يُعيد الزمن الجميل إلى غزة ويرسم الأحلام الضائعة: 'يا ريت أقدرأعمل صورة وأرتشها وأضويها وأحلِيها وأحط فيها بلادنا كبيرة وفيها شجر وأرسم فيها مطار ومينا، وأنوِّرها في الليل'.
ويتلمس المخرج أمله بعد تعثر بوجوه بريئة لأطفال غزة يلهون بطائرات ورقية تتراقص على أنغام صوت فيروز 'طيري يا طيارة طيري'، ليوصي بالالتفات إلى الجمال والحب الدفينين. 'ولا مرة جربوا الناس يحبوابعض يا ريت يجربوه و يعرفوه، عَ العموم خلينا ندير بالنا على صورنا ونخلي بكرة أحلى'.
__________
* وفا, غزة. |