سميح القاسم لصحيفة "السفير"*:
القرار الأخير أن أبقي في الرامة
* حاوره: اسكندر حبش (14.5.2009)
سميح القاسم، ابن الرامة التي لم يغادرها، إلا للقاءات شعرية في أرجاء الوطنالعربي، واحد من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، بنى رصيدًا كبيرًا خلال السنينالطويلة التي كتب فيها شعرًا يتوزع على هموم الحياة بأسرها، من هنا رفضه في أن يفصلما بين باب وباب في الشعر، إذ أنه يكتب نفسه أولا وأخيرًا. هنا لقاء معه، جرىمؤخرًا في عمّان، خلال مشاركته في "أيام عمان الشعرية"، الذي دار، الحديث، حول جملةمن الموضوعات الشعرية والثقافية والسياسية.
رسم: ناجي العالي
- سميح القاسم، بعد أكثر من خمسين كتابًا وبعد أكثر من خمسين سنة من التفكيربالقصيدة وكتابتها إلى أين وصلت بالشعر أو لنقل إلى أين أوصلك؟ وهل وجدت تعريفًا مالكلّ ما فعلته في هذه الحياة عبر الكتابة؟
حين أشعر بدنو أجلي، بدون شك سأطرح مثل هذه الأسئلة على ذاتي، لكني بتكويني،بطبيعتي، بمزاجي، بوعيي، لا أخاف الموت ولا أحبه ولا أستدرجه، لكني أيضًا لاأستعجله. أما إذا جاء فلن يجد رجلا بركبتين مرتجفتين هلعًا. لا أحبه ولا أخافهلكنني لا أستعجله. وإذا طرحت على نفسي أسئلة من طراز سؤالك هذا فسأكون مسكونًابالرعب من القادم غير المرحب به وهو الموت. صراحة أنا لا أطرح مثل هذه الأسئلةوأكثر من ذلك قد يكون اعترافًا خطيرًا: أنا لا أفكر بالقصيدة، أعيشها، أضعها علىالورق، أقرأها، وتبلغ العلاقة بيني وبين قصيدتي الأخيرة عادة حالة تشبه الجماعوالنشوة الكبرى. أو لنقل النيرفانا بالنسبة إلى الطهوريين من البشر. ولا أسأل ماذافعلت بها أو ماذا فعلت بي، أعيشها وحسب. لكن من ردود الأفعال الخارجة عن نطاقي وعنحدودي، ردود أفعال النقاد مثلا، ردود أفعال الجمهور، جمهور الشعر. بهذا المعنىأستطيع أن أموت قرير العين لأن هذه القصيدة كما يبدو تحولت إلى طاقة واسعة الانتشاريتفاعل معها قارئ الشعر العربي أو الأجنبي في حال ترجمتها وأكثر من ذلك. قرأت فيعدة مدن أجنبية وكنت أفاجأ بالجمهور يطلب إضافة إلى القصائد المترجمة أن أقرأبالعربية، فقط بالعربية التي لا يفهمها. ودائمًا أجد متعة استثنائية في التفاعل بينالقصيدة وبين جمهور يحسها ولا يفهمها.
- بهذا المعنى هل تحولت القصيدة إلى حياة في مشروع الحياة عندك؟
نعم، ولهذا السبب أنا أحترم رأي ناقد عربي وصف قصيدتي بأنها قصيدة حياة.ليست قصيدة سياسية أو وطنية أو قصيدة حب أو قصيدة جسد أو قصيدة روح بل إنها قصيدةحياة بكل معنى الكلمة.
- من هنا وتعقيبًا على قول الناقد ألا تعتقد أن النقد العربي قصر حين وضع الشعرفي خانات ما. إذا أردنا أن نتحدث عن الحياة، فالحياة تتضمن كل ذلك. صحيح أننا نقولبوجود باب الوصف وباب الحماسة الخ، لكن كل تلك الأمور تشكل وحدة متكاملة؟
نعم، لكن اسمح لي قبل كل شيء أن أعبر عن اعتزازي بعدد من النقاد العربالكبار الذين كتبوا عن قصيدتي من داخلها واستطاعوا أن يضيفوا إلى القارئ عدة مفاتيحلم تكن واضحة. لكن ما يدهشني حقًا هو بعض النقاد الأجانب الذين كتبوا ما كنت أتمنىأن يكتبه نقاد عرب. مثلا أن تأتي باحثة أميركية وتكتب دراسة ضخمة حول تحديث الجناسفي قصيدة سميح القاسم، أعتقد أن هذا يدل على اهتمام استثنائي وعلى تعمق وعلى دراسةودراية. كنت أتمنى أن يهتم بهذه المسائل نقاد عرب...
- ولكن هذا الأمر يدل أيضًا على تقصير النقاد العرب أو على الأقل عدم المواكبةالثقافية والنقدية.
أخي النقاد العرب كما أقول دائمًا نوعان: هناك نقاد شعر وهناك نقاد المئةدولار. نقاد الشعر هم قلّة بالطبع، لكنهم موجودون ومحترمون وعلى مستوى عالمي وأرجوإعفائي من إعطاء أسماء حتى لا أظلم أحدًا. لكن بتعبير بسيط، من إحسان عباس حتى عبدالواحد لؤلؤة مثلا هناك أسماء راقية جدًا في النقد العربي وعلى مستوى أكاديمي وعلميوثقافي عالمي لا أستخف بأثرهم، لكن تؤلمني محدودية مساحتهم ونفوذهم في ما يسمىالساحة الثقافية. الصوت الأعلى الآن هو ما يسمى نقاد الصحافة وبعضهم نقاد المئةدولار. نحن اليوم بمئة دولار نستطيع أن نشتري لقب متنبي أو شوقي أو بودلير أو ماتشاء، بالثمن المدفوع. هؤلاء معروفون.
- أنت تشير إلى أمر خطير في الحياة الثقافية العربية..
طبعًا.
- برأيك لماذا وصلت الحياة الثقافية العربية إلى هذا الدرك؟
أولا أنا أشير بالطبع إلى حالة خطيرة وأفضل أن لا أشير إلا إلى الحالاتالخطيرة لأن حياتنا كأمة وكشعب وكوطن موجودة في دائرة الخطر وأزعم دائمًا أن الخندقالثقافي هو آخر معقل للعرب وإذا سقط هذا الخندق فسيصبح العرب مجرد قطعان منالمستهلكين لبضائع أجنبية بدون عمود فقري إنساني وثقافي وحضاري وبدون وجود مؤثر علىالخريطة البشرية. من هنا قلقي على الخندق الثقافي ومن هنا غضبي على ظواهر الارتزاقوالعمالة والتزلف والتساقط الذبابي على قطعة نقد وضيعة. لكن لا يجوز فصل الواقعالثقافي أيضًا عن الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري وبهذا المعنى نحن في حالةتردٍّ عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وبطبيعة الحال هذا التردي ينعكس علىالحالة الثقافية.
- إزاء هذا التردي الذي أصبح واقعًا، السؤال الذي يجب أن نسأله اليوم ماذاتستطيع الثقافة أن تقوم به في ظل هذا التهميش وبخاصة من قبل النظام العسكري السياسيوالنظام الديني. شئنا أم أبينا تتعرض الثقافة اليوم إلى حالة إقصاء وإخصاء فعلية.هل يمكن بعد كعرب أن نلعب دورًا ثقافيًا ما؟ هل من الممكن أن تلعب الثقافة الدور فيحياتنا؟
قطعًا وبدون تردد، أريد التنبيه إلى أن جبروت الاستبدادية والعسكريتاريةوالمخابراتية في الحياة العربية والقمع الثقافي لا يتم عفوًا وبصورة ارتجالية. هناكإحساس لدى السياسي وفي الوعي السياسي الرسمي بأن الخطر الأكبر يأتي من الجانبالثقافي، لا من المجال الاقتصادي ولا العسكري. ليست لدي قواعد صاروخية سرّية لكنلدي قصائد صاروخية وفتاكة. نعم تستطيع قصيدتي أن تكون فتاكة لذلك فإن المعسكرالسياسي، العبثي في رأيي والمناقض لسنة الحياة، يفقد صوابه إزاء الثقافة ويحاربهاويحاول قمعها ويحاول تدجينها وهنا الخطر الأكبر: التدجين، شراء المثقفين، تحويلالمثقفين إلى أقنان وإلى حيوانات أليفة في حظائر السياسة والمال وهذا يحدث علىامتداد الوطن العربي. هناك أسماء تبدو كبيرة ولكنها في جوهرها صغيرة جدًا، لأنهاقبلت أدوار الخصيان في قصور المؤسسة السياسية والقصور بالمناسبة ليست وقفًا علىالنظام الملكي. جمهورياتنا لديها أيضًا قصورها، لذلك يبقى الخندق الثقافي هو الأملالأخير...
- تقصد أننا "محكومون بالأمل"..؟
لا لسنا محكومين بالأمل، أنا لا يحكمني الأمل. أنا أبدع هذا الأمل أنا أخلقهذا الأمل لأنه أملي الأخير. بدون أمل نفقد مبرر وجودنا كبشر كأفراد. أنا كفرد،كمواطن عربي، في وطن عربي افتراضي، يحكمه العرب افتراضيًا، في كينونة افتراضية،الكينونة العربية الآن هي افتراضية غير حقيقية، وهمية بالمطلق، وبشكل فاجع جدًا.وليس من قبيل الغرور، إذ أرفض أن أتهم بالغرور وبالكبرياء وبالعجرفة والعنجهية،أرفض هذه التهم سلفًا لأنها تهم باطلة، بل من منطلق المسؤولية الإنسانية، المسؤوليةالشخصية تجاه نفسي. أنا لا أريد بقصيدتي أن أحرر الأمة العربية بل أريد أن أحررذاتي. لا أريد أن أحرر الوطن العربي الكبير أريد أن أحمي منزلي وحديقته ومقبرةأجدادي وبقعة الأرض التي سأدفن فيها والتي تغيرت ثلاث مرات لأسباب شتى. هذا هو دورالثقافة، هذا هو دور القصيدة. برأيي يبقى دور الشاعر أكبر من دور الجنرال هذه هيوجهة نظري. اسمح لي بعبارة، لا أريد اختراع هالة مسيحية حول رأسي كأنني المخلصالأخير والوحيد والمصلوب فداء للأمة، كلا، هناك عناصر كثيرة، عناصر ثقافية علىامتداد الوطن العربي، هناك مثقفون أحياء، شجعان، نظيفون، مبدعون، والعنصر الغائب هولقاء هؤلاء.
- بالتأكيد، لكن السؤال، كيف يمكن اليوم تحويل هذه الثقافة "الافتراضية" كماأسميتها، إلى ثقافة "كونكريتية"، محسوسة ومجسدة. تستطيع فعلا أن تستعيد دورها فيالمجتمع بشكل عام؟ ننظر إلى الثقافة اليوم وكأنها من كماليات الأمور؟
أبدًا، ليست من كماليات الأمور. الثقافة الافتراضية هي من كماليات الأمور،أما الثقافة الحقيقية، الحية فليست من الكماليات لكنها تفقد دورها وحضورها...لا، لها حضورها ومساحتها، أنا أتجول في الوطن العربي وكما يقول الإعلاميونهناك، أمسياتي الشعرية في الوطن العربي أكبر أمسيات في العالم. وهذا الجندي أوالعامل أو المثقف الذي يقطع مئات الكيلومترات الذي يأتي ليسمعني، لا يفعل ذلك سعيًاوراء المتعة فقط، هناك تكافل حضاري قوي ومتين وفاعل. الإنسان العربي في عمقه طاقةإنسانية هائلة مقموعة إلى حين. القمع هو الافتراضي في الوجود المطلق، صحيح أنهالحقيقي في الواقع الملموس، لكنه افتراضي في المستقبل، لن يدوم، لن يستقر، لنينتصر. أقولها مكررًا ما حدث لي حين ودعت منظمة التحرير تونس في طريق العودة إلىفلسطين. قلت ستقوم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الآن أو غدًا أو بعد غد، لكنهاستقوم. فقال لي أحدهم هذا كلام شعراء، هذا خيال شعراء، وأجبت على الفور من علىالمنصة، ليس هناك على الأرض ما هو أكثر واقعية من خيال الشعراء. الحالة الافتراضيةهي العابرة وهي الزائلة ويبقى في المحصلة واقع الروح.
- يقودنا هذا الجواب إلى السؤال عن الوضع الفلسطيني الراهن. سميح القاسم المقيمفي الأرض المحتلة كيف ينظر إلى ما يحدث في فلسطين؟
أولا أنا مقيم في وطني. وسأحاول الإقامة في وطني حتى يومي الأخير. وسأهتم فيأن يقيم جثماني من بعدي وترابي ورمادي في هذا الوطن. وسأحاول أن يقيم أبنائيوأحفادي في هذا الوطن، لأنه وطن جميل يستحق التضحية وجدير بأن نكون مواطنيه ونحنجديرون بأن نكون مواطنيه. أما الحالة الفلسطينية، فأنا طبعًا لا أضيف حين أقول إنهاحالة بائسة وتعيسة وساقطة ومنحطة وبعيدة عن أي احترام وبعيدة عن أي مسؤولية وعن أيشعور بالمسؤولية. وهي حالة إما أن تلغي الطموح الفلسطيني إلى الحرية والاستقلال،وإما أن يتصدى لها الشعب. المعادلة ليست حماس وفتح فقط، هناك شعب، والشعب أكبر منحماس وأكبر من فتح. هناك شعب بأكمله يضع نفسه في خانة الفلسطيني. لا يعقل أن يحسمأمر هؤلاء بالصراع بين قبيلتين عربيتين. حالة الجاهلية الجديدة ليست وقفًا علىالوطن العربي الكبير، هي تشملنا نحن أيضا، لدينا حالة الجاهلية الجديدة، الموجودةبين الفلسطينيين. من قال إن الفلسطيني من طينة مختلفة. هو من طينة عربية معروفةومألوفة.
- وكيف الخروج من جاهليتنا الجديدة برأيك؟
بالدعوة والتبشير والكفاح وبوعي آيتين كريمتين من القرآن الكريم ـ وأنا لستمتدينًا ـ بل علماني، مؤمن بالله. وعكس العلمانية هو الجهلانية وليس الإيمان. هناكلعبة وسخة تحاول تصوير العلمانيين بأنهم كفرة ملحدون وأن عكس العلمانية هو الإيمان.عكس العلمانية هو الجهلانية. أنا مؤمن بالله تعالى وبأنبيائه ورسله وصديقيه، وهذهحقيقة لا جدال عليها. هناك آيتان: "ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"،إذًا الله يضع علينا مسؤولية التغيير ويرفض الاتكالية. يجب فهم هذه الآية بصورةجدية ومحترمة وعميقة وعدم تعليق كل عيوبنا على مشجب الله سبحانه وتعالى. ثانيا: "وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون..." اعملوا ولم يقل تكلموا. والعملمسألة ملموسة، واقعية، مجسدة. العمل ليس نظرية. إذًا بإدراك المسؤولية، مسؤوليةالتغيير الذاتي، وقد وضعها الله على البشر لا عليه، وبالعمل، ليس الأمر مستحيلا.العبثية هي في تزوير أقوال الله وأقوال أنبيائه ورسله. هناك عملية تزوير بشعةورهيبة تكتسح حياتنا ولذلك يجب إعادة الأمور إلى نصابها. والاعتراف بالمسؤولية.
- قارئ شعرك لا بد أن يلاحظ سمة أجدها حاضرة كثيرًا وهي هذا المزج ما بين لحظةميتافيزيقية من جهة وبين تفاصيل الحياة اليومية من جهة ثانية. برأيك كيف تفسر هذاالمشروع الشعري إذا جاز التعبير؟ هذا المزج بين أمرين يبدوان مستحيلين للوهلةالأولى؟
أذكر ربما من ثلاثين عامًا، أحد النقاد استهجن أن أستعمل ألفاظًا من مثلتكنولوجيا وتلفون وطوربين في قصائدي، واستهجن آخرون أن أستعمل كلمات من مثل «أوكي»،كجزء من القصيدة وأن أدخل ألفاظًا عبرية وفرنسية وإنكليزية وروسية... وكان رديبسيطًا، هذا الرجل الذي استنكر عليّ، في حياته اليومية يتوضأ استعدادًا للصلاةوينظر في ساعة سويسرية للتأكد من وقت الصلاة. الساعة السويسرية والتلفزيون والوضوءوآيات الذكر الحكيم ورنين أجراس الكنيسة والميكروويف في المطبخ، هي متداخلة. وإذاكنت شاعر حياة أو بعبارة أقصر إذا كنت شاعرًا حقيقيًا فلا يجوز الانتقائية. لا يحقلي وكرامتي الشعرية لا تقبل بانتقائية: قصيدة للدين، قصيدة للوطن، قصيدة للمرأة،للشجرة، لا... قصيدتي تعبر عني ببساطة لا تعبر عن الأمة ولا عن الشعب ولا عن الوطنولا عن الثورة، كل من يقول لك إني أكتب للشعب والثورة والأمة لا تصدقه، فهو دجال.أنا أكتب لذاتي أولا وقبل أي شيء، حتى أتوازن مع نفسي ومع الكون. حتى أستطيع السيرفي الشارع بشكل منتظم، حتى أجن أو أنتحر أو أكتب قصيدة. أصعب الخيارات.
- هذا الخيار فرض عليك أيضًا، فيما لو نظرنا إلى الأسلوب الشعري إذا جاز القول،لوجدنا أن القصيدة مركبة أحيانا بطريقة كبيرة، وأحيانًا، لا، إذ تذهب أكثر إلىالمباشرة. لماذا أيضًا هذان الخياران؟
هذا ليس خيارًا. هو حالة تعبر عن ذاتها بعفوية كاملة. بالمناسبة، فيما يتعلقبمسألة المباشرة وهي أحيانًا سيئة. لا أستعملها بهذا المعنى. لكن المباشرة القادمةمع أدوات فنيّة استثنائية هي الاختبار للشاعر. قصيدة عن الانتفاضة أو عن لبنان أوعن بغداد، بموضوع واضح وحاد، لا يحتمل الغموض أو التأويل... هذه الحالة لا يعبرعنها بعبارات غامضة غير مفهومة، قابلة للتأويل إلا إذا كان لدي موقف سياسي معارض.لذلك الحالة هي التي تفرض الشكل والتي تفرض الصورة والإيقاع. لا يعقل أن أطالببقصيدة مهموسة عن الانتفاضة، عن مظاهرات شاركت فيها بجسدي. في أي حال، إذا توفرتالشروط الفنية للقصيدة تبقى القصيدة وإذا لم تتوفر تذهب.
- في قراءاتك العديدة والمتعددة، كيف تجد تفاعل الجمهور مع هذه القصائد المركبة؟هل أن ذائقتنا تستوعب قصائد بحاجة إلى تفكير؟ أقصد سماعًا في الأمسيات؟
لدينا وعي خاطئ في الإعلام العربي، بمسألة الجمهور والإبداع. هناك انطباعوكأن المبدع في برج سماوي شاهق، والجمهور في حضيض الكرة الأرضية. هذه صورة خاطئةجمهور الشعر وبالذات جمهور الشعر العربي، في خلفيته الطويلة والعميقة في تاريخالشعر، هذا الجمهور من أذكى الجماهير وأخطرها. قرأت في كل أنحاء العالم، الجمهورالعربي جمهور خطير جدًا قد يكون المستمع أميًّا لا يقرأ ولا يكتب لكنه ناقد خطيريحس القصيدة ويميز بين الصادق والدجال، بين القوي والركيك، بين الأصيل والمفتعل.الجمهور أخطر ناقد عربي. هناك علاقة متميزة وحقيقية بيني وبين الجمهور العربي. فيكل مكان. لذلك هذه الألفة بيني وبين الجمهور سمحت لي أكثر من مرة أن أجري هذاالاختبار، لي وللجمهور. قرأت مرة في تونس "سربية"، (وهي التي كانوا يطلقون عليهاالمطولة الشعرية، وهي ليست مطولة، هي طويلة وليست مطولة بشكل متعمد)، قرأت هناكسربية "أشد من الماء حزنًا"، وهي عمل مركب أيضًا، ويبدو صعبًا على الجمهور، فاكتشفتأن هذا الجمهور استوعبني، امتصني جسديًا، وكانت من أجمل أمسياتي في تونس وفي غيرتونس.
- سؤال أخير، متى ستقرأ في بيروت وماذا تعني لك هذه المدينة؟
بدون فلسفة وبدون استعراضات، مسألة يعرفها كل الناس. بيروت مدينتي وهي أختي،أخت حيفا وأخت القدس. هي إحدى مدني. ولمدينتي هذه التي اسمها بيروت حضور خاص فيوعيي الثقافي والإنساني والسياسي أيضًا. أرى فيها فرسًا عربية أصيلة لا تقبل بأنيمتطيها أي فارس. هي مدينة حرية، مدينة كرامة، ومدينة عروبة بتميز وبامتياز. يرضيكهذا الكلام أو لا يرضيك، صدّق لا يعنيني. أنا أقول ما أحسه. بيروت بمناخها الحرنسبيًا لا بأس. في كل مكان الأمور هي نســبية. في واشــنطن هي نسبية. وفي باريس.لكن كأنمــا بيــروت الصورة المستــفزة للمستقبل.
إنها صورة المستقبل العربيالذي أريده. صورة تستفز الحاضر. بدور النشر، بالصحف، بالتعددية، بالهامشالديموقراطي الرحب. بعنفوان هذا الشعب الصغير والمدهش. بتعدديته الساحرة. والتعدديةنعمة نحن من نحولها إلى نقمة. هي هبة الله للبنان، ليس الأرز أولا، بل التعدديةأولا. بيروت مدينة أعتقد إني أحبها كما لم يحبها أحد. ويزيد من حزني، ومن حبي أيضا،أن جنرالا إسرائيليًا قرر منعي من دخول بيروت. يخيرني إما أن أذهب إلى بيروت من دونعودة أو أن أبقى في الرامة. ومع حبي الكبير لبيروت ولغيرها من المدن، وغير القابلللمساءلة والمجادلة، القرار الأخير أن أبقى في الرامة.
|