"قوة الظلمات" لتولستوي:
الفن المبدع لخدمة إصلاح المجتمع
بقلم إبراهيم العريس*
«إن هناكملايين وملايين منكن أيتها النساء وأيتها الفتيات. لكنكن جميعاً مثل حيواناتالغابة، ما إن تُولد الواحدة حتى تموت. تموت من دون أن تكون قد رأت شيئاً أو سمعتأي شيء. أما الرجل فإن في إمكانه أن يتعلم شيئاً؟ إن لم يكن في أي مكان آخر، فعلىالأقل في الحانة، أو إن حالفه شيء من الحظ: في السجن. أو في الجيش، كما حدث لي أناشخصياً. فماذا عن المرأة؟ إنها لا تعرف شيئاً عن الرب القدير، لا تعرف يوماً من يومآخر...». بهذه العبارات يتحدث بمرارة شديدة ميتريخ أحد العاملين في تلك المزرعةالتي تشكل مكان أحداث واحدة من أقوى المسرحيات التي كتبها ليون تولستوي، ضمن إطارههمه الفكري - والفني كذلك - العام الذي كان يرمي من خلاله، الى القول إن المرأةليست مستضعفة في طبيعتها بفعل وضع بيولوجي ما، بل إن المجتمع وقوة الظلمات فيه هيالتي تحطمها من مهدها الى لحدها، كما تحطم الفقراء جميعاً والأميين جميعاً. ومن هنالم يكن تولستوي عشوائياً في اختياره «قوة الظلمات» عنواناً لهذه المسرحية الدراميةذات الفصول الخمسة التي كتبها عام 1886، والتي ما إن ظهرت حتى منع عرضها أو تداولهافي طول روسيا وعرضها، من قبل السلطات وبتحريض من الكنيسة.
> «قوةالظلمات» مسرحية مملوءة بالجثث والشر والقتل. ومملوءة بالشخصيات التي تقدم علىأفعالها ومواقفها وكأن قدراً صاخباً يحركها، إنما من دون أن يخلو الأمر من شخصياتأخرى، طيبة تمثل الطيبة الطبيعية المعهودة في عالم الفلاحين الروس في الأزمانالخالية. بيد أن التوازن، في المسرحية، مختل تماماً بين الأشرار والطيبين. علماً أنعدد النساء، اللواتي يوجه اليهن ميتريخ الحديث على الطريقة التي حورناها أعلاه،أكبر من عدد الرجال، مع حرص تولستوي على أن يكون الجنسان متساويين بالنسبة الىمسألتي الخير والشر. والحقيقة أن أول ملاحظة يمكن إيرادها في صدد هذه المسرحية أنها - وعلى رغم امتلائها بالحوارات والخبطات المسرحية - تبدو للوهلة الأولى وكأنهارواية طويلة ضلت طريقها فوصلت الى خشبة المسرح، أو أنها في الحقيقة لم تصل حتىالعام 1902، حين ساد جو ليبرالي تنفيسي بعض الشيء في روسيا، سمح للرقابة بأن تخففمن قبضتها، أما التقديم الأول لها فكان في «مسرح الفن» العريق في موسكو من اخراجقسطنطين ستانسلافسكي. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن ستانسلافسكي كان أولاً قد أرادتقديم المسرحية في عام 1859، الذي كان أول أعوام تخفيف حدة الرقابة، لكنه طلب منتولستوي أن يجري تعديلات تطاول بضعة سطور من حوارات الفصل الرابع، لكن تولستوي رفضإجراء أي تعديل، فتوقف المشروع ليستأنف بعد ذلك بسنوات، لكن العرض الأول ذاك لم يكنناجحاً، بل وجهت الى المخرج انتقادات كثيرة، أكثرها طاول أداءها شخصياً لدورميتريخ، الذي ليس دوراً أساسياً في المسرحية على أية حال.
> الشخصيةالمحورية في «قوة الظلمات» هي شخصية نيكيتا، المزارع الفقير الذي أتى ليعمل فيمزرعة السيد الثري بيوتر، بعد أن كان قد أفسد فتاة صغيرة في قرية أخرى حملت منه. فيالبداية أتى نيكيتا عاملاً، من دون أن يتنبه أحد الى قدرته على إغواء النساء. وهنافي القرية، ها هو يعمل مع بيوتر، حيث تغرم به زوجة هذا الأخير، واجدة لديه عطفاًتفتقده لدى زوجها القاسي الأرعن والذي يعاملها كما الخادمة هو وابنتاه، من زوجةسابقة له. غير أن نيكيتا ليس مقطوعاً من شجرة، بل وراءه أبوه الطيب آكيم، الفقيرانما الشريف والذي يلح عليه أن يقترن بالحبيبة المغدورة الحامل مارينا، اصلاحاًلغلطته معها. وإذ يبدي نيكيتا للحظات نوعاً من التجاوب مع أبيه تتدخل أمه القاسيةالشريرة لردعه عن ذلك. في تلك الأثناء تكون آنيزيا، زوجة بيوتر قد أقدمت على قتلهذا الأخير بغية الحصول على ما لديه من ثروة... وذلك بتأليب من نيكيتا الذي كانتتعتقد أنه سيكون لها انطلاقاً من اعلانه حبها، ثم انطلاقاً من طمعه المتوقع فيالثروة التي ورثتها. وفي البداية يمكن أن يكون نيكيتا قد أحب المرأة بعض الشيء،لكنه لاحقاً وإذ يملي عليه وعيه أنه، هو، شريكها في الجريمة في شكل وبآخر، يتحولحبه لها الى كراهية ويضحي راغباً في التخلص من علاقته بها، بخاصة أنه يتخذ لنفسههنا عشيقة هي آكولينا، المراهقة الابنة الكبرى للمغدور بيوتر من زوجته الأولى.وسرعان ما يحدث أن تحمل آكولينا الطرشاء والحمقاء، ما يشعل الفضيحة في دائرة ضيقةأولاً، ويرغم آنيزيا على أن تصبح خادمة لها ولعشيقها، انطلاقاً من عدم قدرتها علىمقاومة حبها لنيكيتا.
> في تلك الأثناء يكون العجوز آكيم والد نيكيتا قدجاء الى القرية ساعياً وراء الحصول على بعض المال من ابنه كي يشتري حصاناً يحتاجاليه. فبالنسبة اليه صار نيكيتا ثرياً، غير أنه يلاحظ مدى الفساد الذي صار عليهابنه فيحاول أن ينقذه منه.. بيد أنه إذ يفشل في ذلك يغادر المكان غير آسف. وبعدذلك، يكون قد آن الأوان لاندلاع فضيحة حمل آكولينا، إذ وضعت الطفل، الذي ستخبرآنيزيا متواطئة مع أم نيكيتا، هذا الأخير، بأنه ولد ميتاً ويتعين عليه الآن دفنه.فيطيع الشاب امرأته وأمه ولكنه حين يبدأ بدفن الوليد يلاحظ أنه حي، فيجن جنونه،لكنه بدلاً من انقاذ الطفل يقتله، ويزداد جنونه.. ومنذ تلك اللحظة لا يقر لنيكيتاقرار.. انه في كل لحظة لا يرى سوى شبح الطفل يلاحقه، وصراخه يصم أذنيه.. لقد فقد كلشيء حتى القدرة على الراحة والنوم.
> وعلى حالة نيكيتا هذه يفتح الفصلالأخير من المسرحية.. وهو فصل يدور في معظمه من حول عرس آكولينا، فهي درءاً للفضيحةقبلت أن تتزوج شاباً من الجيران الفقراء.. وها هي التحضيرات تقوم الآن في القرية،حيث الكل حاضرون باستثناء نيكيتا، الذي بات يهيم على وجهه حول المكان مرتعباً،نادماً حزيناً، وطفله القتيل يلاحقه. وفي النهاية لا يعود في وسعه أن يستمر على تلكالحال، بل يستغل فرصة الجمع في العرس ويقف وسط الناس ليصرخ معترفاً ليس فقط بقتلهطفله، بل كذلك بكل ما اقترف من جرائم في شكل مباشر أو بمساهمة منه.. كما يعترفبإساءته الى أبيه والى كل شخص دنا منه. وعلى هذا تنتهي هذه المسرحية القاسية التياعتبرها كثر صورة للفقر والجهل والجشع.. ولعل أبلغ ما قيل من حول هذه المسرحيات هو «أن الواحد لا يكفيه أن يكون فناناً مبدعاً حتى يكتبها، بل إنها تتطلب أيضاً مؤلفاًذا روح انسانية عميقة التعاطف مع البشر وأحزانهم وآلامهم.. ومن الواضح أن تولستويكان يمتلك هذه الروح، كما كان يمتلك ملكة الخلق الإبداعي.. هو الذي كان يعرف أنكارثة حياة الفلاحين لا تكمن فقط في الشر المقيم والموروث، بل كذلك في وجود قوةالظلمات التي تضغط عليهم طوال حياتهم، منتزعة من داخلهم كل ما هو إنساني جارة اليهمحتى حضيض الحضيض».
هذه المسرحية التي قدمت للمرة الأولى في أميركا بلغةاليديش، كما قدمها ارفين بسكاتو، للمرة الأولى في ألمانيا في مسرحه «البروليتاري»،قائلاً إن هدفه من ذلك «تحويل عمل ذي أساس فني الى رسالة سياسية»، كتبها تولستوي (1828 - 1910) وهو يقترب من الستين من عمره، أي خلال تلك الحقبة الأكثر خصوبةونشاطاً، حيث راحت تختلط لديه أمور المجتمع مع شؤون الفن في شكل واع، وبدأ يجدامكانية أن يستخدم الفنون، بل أكثرها شعبية، لإصلاح المجتمع. ومن هنا تحتل هذهالمسرحية مكانة أساسية، وربما تأسيسية أيضاً في عالمه الكتابي، كما أنها احتلت فيتاريخ الأدب الروسي مكانة لا تقل عن مكانة أعمال روائية كبرى لتولستوي مثل «البعث»و «آنا كارينا» و «الحرب والسلم».
------------
|