محمد الأسعد
أطفال الندى/ رواية*(الفصل الأول)

على قمةٍ شبه مستويةٍ في النهاية الجنوبية لجبل الكرمل، تربض قرية أمّ الزينات الفلسطينية. ويمكن للإنسانِ أن يأتيها من عدة طرقٍ بعكس ما تذهبُ إليه كتبُ الموسوعات التي تصرُّ على أن ثمة طريقين إلى ارتفاعها البالغ 317 متراً عن سطح البحر، الأولُ طريقٌ معبدٌ، 38 كم، يصلها بحيفا عبر جبل الكرمل، والثاني طريقٌ طوله 24 كم عبر مرج بن عامر.
الطرقُ إلى أم الزينات كثيرة، ويجيد القرويون إيجاد الطرقِ عبر الوعر ونباتِ الصبر والزعرور، فعلى مبعدةٍ منها يمتدُّ الطريقُ الوعرُ إلى أم الدرج، وهي نبع ماء يرتبط اسمها بمعركة خاضها الثوار، 1936، ضد القوات البريطانية. وإلى جنوبها يستطيع القروي أن يذهب إلى أم الشوف وأم الفحم متنقلا بحرية بالغة، بعيداً عن الطرقِ المعبّدة. وقد أصبحتْ كلّ الطرق بفضل التمكّن الفلاّحي تقود إلى أمّ الزينات وتنطلق منها. أما وادي الملح المجرّد من الشجر، فقد ظل معبراً يتذكره الفلاحون جيداً في طريقهم إلى شرق فلسطين، وذلك قبل أن يمتليء بالشجرِ وفقَ نبوءة الشيخ حمزة.
كلُّ هذه الطرق والأماكن يرتبط بالأحداثِ، ليس هناك مكانٌ لايرتبط بالذاكرة، بحدثٍ ما. ولو أُتيح لنا أن نرصد تفاصيلَ الأحداث والأماكن عبر زمنٍ يمتدُّ إلى أبعد من جيلٍ أو جيلين، إلى مئاتِ الأجيال، لكانتْ من كلِّ هذا ملحمةٌ تشهد بأن التاريخ الإنساني موجزٌ إلى حدٍ كبير في كتبِ المعلوماتِ والموسوعات.
إنها قريةٌ صغيرة تمرّدتْ كما تقول التواريخ الرسمية للإستيطان الصهيوني على "سلطة الدولة"، أي على قرارِ التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة، وجعل هذه القرية جزءاً مما سمّوه "إسرائيل". ومثل كلّ قرارات الموسوعات والتواريخ الموجزة، جاء القرارُ ليطمس كلّ تفصيلٍ وكل ملمحٍ إنساني خاص بهذه البقعة الصغيرة. ولكنني أتذكرُ بأن جدّي كان هناك في سنةٍ من سنواتِ هذا القرن العاصف، ربما في العشرينات، وقد استيقظ ذات صباح مع الفجرِ وصياح الديكة لينزل إلى حيفا. وبعد أن أعدّ حصانه، اتكأ على مسندٍ في غرفة الضيوف يشرب قهوته ويدخّن لفافة تبغهِ الأولى. وكما لو كان الأمر حدثاً في أسطورة، استبطأته جدّتي، وجاءت تنبههُ إلى أن الشمسَ قد ارتفعتْ وبدأت أمواجُ البحرِ تتلألأ أمامَ حيفا الراقدة في السفحِ، فوجدته مازال متكئاً وقد مالَ برأسهِ جانباً؛ لقد كان ميتاً.
وتقول أمّي إن حزنَ الجدّة عليه كان عظيماً، فقد كان شخصاً لايُعوّض إلى درجة أنها لطمتْ صدرها بالحجارة.
جاء القرارُ ليطمس التفاصيلَ وتفاصيل التفاصيل، أي حتى تلك التي التقطتُها، أنا الصغيرُ كما يلتقط الإنسانُ حلماً، فلا يجد في يدهِ إلا صوراً.. ولاحركة.. صورة من هنا.. وصورة من هناك. ولكنني أسيقظُ بعد كلّ هذه السنوات وتتحركُ فيَّ قريةٌ كاملة بكل طرقها عارفاً أن الكتبَ المدرسية لا تصف إلا طريقاً أو طريقين، ولكن أهلنا كما يبدو يعرفون مئات الطرق التي تصلُ إلى أم الزينات أو تنطلق منها.
بئرُ الهرامس.. كم سمعتُ هذا الاسمَ يترددُ على الألسنة، وخاصة حين تنطقه أمّي مشفوعاً بحادثة حدثتْ هناك! لايعرف القرويُّ أن يقصّ حدثاً إلا مشفوعاً بمكان. وحتى الأزمنة لاتقاس بالأرقامِ المجردة، بل بالأحداثِ الحيوية.. بسنواتِ الحصادِ والجفافِ.. والثورةِ.. والفتنةِ.. ومجيء الإنكليز لتطويق البيتِ وتخريب مؤونة الصيف والشتاء.. حين خلطوا الشيدَ بالزيتِ والقمحَ بالتراب.. بل وطاردوا الدجاج ومعسوا رأسَ بعضه بالشيد.
كان بئرُ الهرامس يُذكرُ بحنانٍ لاأدرك مصدره.. أنا الذي لم يذهب إليه يوماً. ولكنني أتمثلهُ ليصبح جزءاً من ذاكرتي، وليصدمني اسمه حين أقرأه في الكتبِ مكتوباً هكذا.. بئر الحرامس. كم هو غريبٌ هذا الاسم.. ومحتلٌ.. إلى درجة أنني لاأترددُ في تشبيه الاسم بمستعمرة تقامُ مكان قرية الطفولة. وأقرأ أن المستوطنين الصهاينة بعد أن هدموا قريتنا أنشأوا إلى جوارها على بعد كيلو متر واحد مستعمرة أطلقوا عليها اسمَ إلياقيم. اسم مغلقٌ لايعني شيئاً. ولا أعرف كيف تبدو هذه المستعمرة الآن، ولكن كلَّ ما أعرفه أن قريتنا ما زالتْ أسسُ بيوتها ماثلة وقد عرّشتْ وامتدتْ فيها وحولها أشجارُ الصبر والزيتون والزعرور البرّي. إنها مقيمة هناك، تتكاثفُ على أرضها وأحجارها الأشجارُ لتكوّن غابة. ولكن ما أن تحترق هذه الغابة ستظهر واضحةً بيوتُ القرويين والطرقُ التي تؤدي إلى القرية.. تلك المعبّدة وغير المعبّدة.
مرحى للكاتب الاستيطاني إبراهام يهوشع الذي رأى خلال كوابيسهِ الكثيرة قريتي وقد ظهرتْ بعد أن احترقتْ الغابة. لقد كان لدى هذا المستوطن من الوقتِ ما مكّنه من أن يحلمَ حلمي نفسه في وقتٍ كنتُ فيه لاجئاً طمسوا تفاصيله وتفاصيلَ مَنْ حولهِ.
أليسَ من حقي أن أستعيدَ تفاصيلي من الكتب.. ومن حلم الآخرين الذين تحدّثوا عني ورأوا رؤياي قبل أن أصلَ إلى سن الرشد؟ أليسَ من حقي أن أعترض على قراراتِ الأمم المتحدة التي تجهلُ اسمي واسمَ جدّي.. بل وتجهلُ أن أم الزينات لايُعرفُ تاريخها كما لايُعرفُ تاريخ الوردة؟.
لقد قرّروا لنا طريقاً أو طريقين، ولكن هنالك العديد من الطرق. فما أن تبتعدعن قريتنا المفروشة كراحةِ اليدِ على هذه القمة الواطئة جنوبيِّ الكرمل وتنزل إلى أحراشِ الزيتون حتى تكتشف هناك بيتاً أو بيتين أقيما في قلب الخضرة، وبعدهما تتشعبُ الطرقُ جنوباً وشمالا وشرقاً وغرباً.. وبين بين. وحين كان الطريقُ المقبلُ من حيفا يمرُّ إلى جانب بيتنا ويصعدُ إلى البلد يتوقف الباصُ الوحيد المعروفُ هناك، وينزلُ منه أخي الكبير آنذاك، ويهرعُ الكلبُ السلوقي الذي أحببناهُ.. وكنا نتجرأ ونمدُّ أيدينا الصغيرةَ في فمه اللاهث، فيمنح الذاكرة شيئاً من الحيوية. لقد كان ذاك دمهُ حين عاد أحد القرويين واختبأ في بيتنا بعد احتلال أم الزينات. وقال في روايته: يبدو أنهم نقلوا بعض قتلاهم إلى بيتنا في ليلة الاقتحام. وقالتْ أمّي: لا.. إنه كلبنا الذي لم يجد مكاناً يذهب إليه فعادَ إلى البيت ويبدو أنهم أحسّوا بحركتهِ.. فقتلوه.
تحدّثني أمّي عن الطرق، فأكتشف عالماً آخر.. فطريقٌ يؤدي إلى البلدة صعوداً، وطريقٌ بين الصيافير يقود إلى وادي الملح، وطريقٌ إلى الروحة، ذلك الحقل الواسع من الخضرة، وطريقٌ إلى أم الدرج، وطريقٌ إلى البئر، وطريقٌ إلى عسفيا والدالية.. وأتيهُ بين التفاصيل، ولا أعرف حين يذكر الاسمُ أهو عين أم بئر أم قرية أم مجرد بلاطات أم حقل زيتون أعطوه اسماً كما كانوا يعطون لأطفالهم أسماءً.
كلُّ شيء في وطني يمتلك اسماً بدءاً من الحجرِ ومروراً بالشجرةِ ووصولا إلى الفصولِ والثمار والإنسان. لاشيءَ يظلّ بلا تسمية بل أن مكاناً أو شيئاً واحداً قد يكتسب اسمين في وقت واحد. ويُخيل إليَّ أنا الذي يمتليء خيالي بالقرية وما حولها كما لو أن أهلي كانوا يسكنون غابةً من الأسماءِ فعلاً.. وطناً لايوجد في اللغةِ الفصحى، ولكنه أفصح منها بكثير، كلُّ ما فيه يسمّى ببساطة. نفهم إذن لماذا هذا الغيظ الاستيطاني من الأسماء الفلسطينية، فكلُّ ما في فلسطين يحاصر الغريب حتى اليأس.. ففي كل مكان شجرة زرعها إنسان، وعند كلّ مرتفع قرية وتحت كل واد بيوتٌ متناثرة كما لو أنها وجدتْ منذ الخليقة. إقلبْ حجراً وتأملهُ.. وستجده ليس طبيعياً تماماً.. وأن آثار فأس أو إزميل قد مرّتْ عليه. لم تكن فلسطين برّيةً في يوم من الأيام.
كان الشيخُ حمزة الذي هو حيٌّ وإنساني أكثر من كل ملفّات الأمم المتحدة واستراتيجيات الغرب، قريباً لنا، ومنذ أن وعيتُ على اسمهِ وهو في سن الشيخوخة. يتحدثُ عنه أبي كما لو أن عمره تجاوز المائتي عام، ويعتقد الأهلُ أن هذا الشيخ كان قارئاً ومدركاً حتى أنه حدّثهم بأحاديث عجيبة عما سيحدث في مقبل الأيام، حدثهم عن وادي الملح الأجرد وكيف أنه سيصير غاباتٍ من الأشجار.
"كان يقرأ في الكتب".. بهذه العبارة التي ينطقها القرويون بتهيب، تشعر كم كانت هذه الروح زاخرة بذكرياتٍ غامضة عن قداساتٍ ضائعة في هذا الوطن. لقد ذهبتْ الكتبُ والألواحُ، ولكن ظلَّ تقديس الكتابة والكتابِ شيئاً غريزياً كما لو كان الأمر منطبعاً في الروح.. وكما لو أن الأبجدية قد وصلت منتهاها وترجمتْ نفسها إلى حياة، فأصبح الإنسانُ نصّاً.
شيخنا هذا ظلَّ هناك. وروى قريبٌ لنا أنه شاهده بعد كل هذه السنوات بعد العام 1967، أي حين صار الوطن كله محتلا.. فسأله أن يقول له ماتقوله كتبه، فقد حدث كلُّ ما تنبأ به في الماضي.. ولكن ماذا عن المستقبل الآن؟.
قال الشيخ: "ألا ترى أن وادي الملح صار غابة؟ لم تكونوا تصدقون ماأقول. والآن إعلمْ أن العرب سينتصرون. وسيضعون يدهم بيد المسكوف. وعندها تدور الدائرة على اليهود".
وصمتَ الراوي متأملا وهو ينقل هذا الحديثَ كأنه يعود إلى القرية مرةً أخرى. كان أهلنا يؤمنون تماماً بالنبوءات. وكانوا يتحدثون عن تلك الكتب اليهودية التي حدثهم بها بعضُ اليهود، وفيها أخبارٌ عن انتصار إسرائيل إلى حين ثم يأتي وقتٌ تنقلب الآية وتنهزم إلى غير رجعة. وكانوا يؤكدون هذه القناعة بالإنتقال إلى القرية دائماً وإحيائها.
لم تكن الموسوعاتُ تعرفهم، ولا كتبُ السياسة تدرك ما يدركون، فكل منهم يعرف قريتهُ وينقلها إلى أبنائهِ بتفاصيلها وأسماءِ عائلاتها، بخلافاتها ومنازعاتها.. وسنواتها. ولكن الكتب الرسمية.. خذلتهم، فأهملتْ مئات الطرق التي تقود إلى قراهم، وتجاهلتْ أسماء الحجارةِ والأودية والشجر والناس، وعمّمتهم إلى درجة مخيفة بحيث تحوّلوا إلى مصطلح وإلى وجهة نظر، وليس وجهة النظر نفسها.
تحدّثني أمّي عن الطرقِ العديدة التي يمكن أن يسلكها القادمُ من كفر الشيخ والشوف وأم الدرج وأم الفحم إلى قريتنا. وأذّكرها بذلك الفجرِ الذي وجدتني فيه أسيرُ في غمامةٍ يحيط بي أناسٌ يتنادون بين الصخور وهم يسيرون ضائعين في الضباب.. وتلك القطعة من الليلِ فوقنا تخترقها جمراتٌ حمراء، وذلك النعاس الذي يأبى أن يداعب العينين وهما تستيقظان على أشباحٍ تبرز في الظلام أو تتجمع حول أضواءٍ مرتجلة.. فتفصّل كل شيء وتذكر المناسبة. وأدركُ أن ذلك الليل كان ليلَ خروجنا من أم الزينات بعد أن احتلّها اليهود.
وتبدأ القريةُ بالظهور مجدّداً، وتحتشد بالأسماءِ والناسِِ، وتمتدّ منها الطرق.
----------
* صدرت الطبعة العربية الأولى عن رياض الريس للكتب والنشر، لندن، سبتمبر 1990؛
- تُرجمتْ إلى الفرنسية ( آلبن ميشيل) 2002؛
- ترجمتْ إلى اليونانية ( الكساندرية) 2003؛
- تُرجمتْ إلى البرتغالية (كامبو داز ليتراس) 2005؛
- ترجمتْ إلى العبرية ( برديس) 2005.
محمد الأسعد -
فلسطيني من مواليد قرية أم الزينات في جبل الكرمل، قضاء حيفا، 1944؛ بعد أن احتلت القرية الهاغناه قريته ودمرتها تماما ليلة 15/5/1948، لجأت أسرته مع لاجئين آخرين إلى دالية الكرمل، ثم طردتها سلطات الإحتلال إلى "جنين"، ومن هناك سحبها الجيش العراقي معه إلى العراق؛ عاش في مخيم لاجئين مع أسرته في صحراء "البصرة" في أقاصي الجنوب العراقي؛ اتم تعليمه في جامعة بغداد، كلية التجارة والإقتصاد، وحصل على دبلوم فنون جميلة (1967)؛ سافر إلى الكويت للعمل، وبدأ يعمل في الصحافة؛ يمارس كتابة الشعر والنقد الأدبي والرواية والأبحاث المتعلقة بعلم الآثار؛ بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990، تشرد مرة أخرى بين العواصم العربية والأجنبية، واستقر لمدة 4 سنوات في صوفيا قبل أن يعود إلى الكويت.
من أعماله المطبوعة:
الشعر:
- الغناء في أقبية عميقة، بغداد (1974)؛ - حاولت رسمكِ في جسد البحر، الكويت (1976)؛ - لساحلك الآن تأتي الطيور، بيروت (1980)؛ - مملكة الأمثال، بيروت (1986)؛ - الأعمال الشعرية- الجزء الأول القاهرة، 2009؛
النقد:
- مقالة في اللغة الشعرية، بيروت، (1980)؛ - الفن التشكيلي الفلسطيني، دمشق، (1985)؛ - بحثا عن الحداثة، بيروت، (1986)؛
الرواية:
- أطفال الندى، لندن، (1990)، ترجمت إلى الفرنسية واليونانية والبرتغالية والعبرية؛ - نص اللاجيء، القاهرة، (1999)؛ - حدائق العاشق، القاهرة، (2001)؛ - شجرة المسرات، بيروت، (2004)؛ - أصوات الصمت، بيروت، (2009)؛
السيرة الذاتية:
- بالإشتراك مع يوسف الغازي، أبعد من الجدران، لاجيء فلسطيني وإسرائيلي يعودان إلى ماضيهما، تحرير فرانسواز جيرمين، بالفرنسية، باريس، (2005)؛
الأبحاث:
مستشرقون في علم الآثار، بيروت، (2009)؛
ترجمات إلى العربية:
بعد السقوط، أرثر ميلر، الكويت، (1998)؛ واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق، دراسة في قصيدة الهايكو، كينيث ياسودا، الكويت، (1999)؛ ست وصايا للألفية القادمة، إيتالو كالفينو، الكويت، (1999)؛
أعمال تحت الطبع:
أم الزينات تحت ظلال الخروب، رواية؛ مغامرة بين السلالات، نقد؛ شرارة على حدود الأبد، نقد؛ ذاكرة الندى، لقاءات؛ الأعمال الشعرية، الجزء الثاني.
|